2025/04/27

شهد نظام التحكيم في ليبيا تطورًا ملحوظًا على مر العقود، حيث انتقل من تنظيم محدود في قانون المرافعات إلى إصدار قانون مستقل يتفق مع أحكام اليونسترال يُعنى بالتحكيم التجاري، مما يعكس التوجه نحو تعزيز بيئة الاستثمار وتسهيل تسوية المنازعات التجارية.

النشأة والتطور

بدأ تنظيم التحكيم في ليبيا ضمن الباب الرابع من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر عام 1953، حيث تناولت المواد (739–771) مسألة التحكيم، مع التركيز على الجوانب الإجرائية مثل اتفاق التحكيم وتعيين المحكمين وإصدار الحكم. كما تم تضمين التحكيم في قوانين خاصة مثل قانون البترول رقم 25 لسنة 1955 وقانون تشجيع الاستثمار رقم 9 لسنة 2010 وقانون علاقات العمل رقم 12 لسنة 2010، مما أظهر اهتمامًا متزايدًا بتوسيع نطاق التحكيم في مختلف القطاعات.​

قانون التحكيم التجاري رقم 10 لسنة 2023

في 17 أبريل 2023، صدر القانون رقم 10 لسنة 2023 بشأن التحكيم التجاري الليبي، والذي يعد نقلة نوعية في تنظيم التحكيم. يهدف هذا القانون إلى توفير إطار قانوني موحد وفعال للتحكيم التجاري، مما يسهم في تعزيز ثقة المستثمرين وتحسين مناخ الأعمال في ليبيا.

يتضمن القانون 10 أبواب رئيسية تغطي:​

1.   الأحكام العامة: تعريفات ومبادئ أساسية.

2.   اتفاق التحكيم: شروط وصياغة الاتفاق.

3.   هيئة التحكيم: تشكيل الهيئة وصلاحياتها.

4.   إجراءات التحكيم: خطوات سير العملية التحكيمية.

5.   حكم التحكيم: إصدار وتنفيذ الحكم.

6.   الاعتراف بالحكم التحكيمي: الأساس القانوني

7.   الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية: شروط وإجراءات التنفيذ

8.   التحكيم الإلكتروني: الوسائل الرقمية

9.   تكوين مراكز التحكيم: التنظيم المؤسسي

10.  الأحكام الختامية: التفسير والتطبيق

أبرز ملامح القانون الجديد

  • التحكيم الإلكتروني: أدخل القانون مفهوم التحكيم الإلكتروني، مما يعكس التوجه نحو مواكبة التطورات التكنولوجية في فض المنازعات.
  • تعزيز استقلالية التحكيم: منح القانون هيئة التحكيم صلاحيات أوسع، مع تقليص دور القضاء في التدخل، مما يعزز من استقلالية العملية التحكيمية.
  • توسيع نطاق التحكيم: أصبح بالإمكان اللجوء إلى التحكيم في مجموعة أوسع من المنازعات التجارية، مما يوفر بدائل أكثر فاعلية لحل النزاعات.​

ثانياً: تنفيذ أحكام التحكيم

يتناول قانون التحكيم التجاري الليبي رقم 10 لسنة 2023 تنفيذ أحكام التحكيم، سواء كانت صادرة داخل ليبيا أو خارجها، ضمن إطار قانوني يهدف إلى تعزيز الثقة في نظام التحكيم وتسهيل تنفيذ الأحكام التحكيمية.​

تنفيذ أحكام التحكيم المحلية

وفقًا للقانون رقم 10 لسنة 2023، يتم تنفيذ أحكام التحكيم الصادرة داخل ليبيا بعد اعتمادها من المحكمة المختصة. يتعين على الطرف الراغب في التنفيذ تقديم طلب إلى المحكمة، مرفقًا بنسخة من حكم التحكيم واتفاق التحكيم. وتقوم المحكمة بمراجعة الحكم للتأكد من عدم مخالفته للنظام العام أو القوانين الليبية قبل إصدار أمر التنفيذ.

تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية

فيما يتعلق بالأحكام التحكيمية الصادرة خارج ليبيا، ينص القانون على إمكانية تنفيذها داخل البلاد، شريطة توفر مبدأ المعاملة بالمثل. ويجب على الطرف المعني تقديم طلب كتابي إلى رئيس محكمة الاستئناف المختصة، مرفقًا بالحكم الأصلي واتفاق التحكيم. تقوم المحكمة بمراجعة المستندات والتأكد من استيفاء الشروط القانونية قبل إصدار أمر التنفيذ.

ثالثاً: أبرز القضايا

شهدت ليبيا العديد من قضايا التحكيم الدولي البارزة التي أثرت على سمعتها القانونية والاقتصادية. فيما يلي أبرز هذه القضايا:

قضية شركة الخرافي الكويتية ضد ليبيا

في عام 2006، أبرمت شركة الخرافي الكويتية عقدًا مع الحكومة الليبية لتطوير مشروع سياحي ضخم بنظام البناء والتشغيل والنقل (B.O.T) في منطقة تاجوراء. في عام 2010، ألغت الحكومة الليبية المشروع من جانب واحد، مما دفع الشركة إلى اللجوء للتحكيم أمام مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي. في عام 2013، صدر حكم لصالح شركة الخرافي بتعويض قدره حوالي 935 مليون دولار. إلا أن محكمة استئناف القاهرة أبطلت الحكم لاحقًا في يونيو 2020 لأسباب تتعلق بالإجراءات القانونية، معتبرة أن هناك خطأ جوهريًا في القانون يرقى إلى انتهاك النظام العام.

قضية تكساسكو (Texaco) ضد ليبيا

في السبعينيات، قامت ليبيا بتأميم أصول شركة تكساسكو النفطية. رفضت ليبيا التحكيم، لكن تم تعيين محكم منفرد من قبل رئيس محكمة العدل الدولية. صدر حكم ضد ليبيا، مؤكدًا التزامها بالاتفاقيات المبرمة مع الشركة.

قضية جنرال دايناميكس (General Dynamics) ضد ليبيا

تعاقدت شركة جنرال دايناميكس البريطانية مع ليبيا لتوريد معدات عسكرية. توقفت ليبيا عن السداد، مما أدى إلى لجوء الشركة للتحكيم أمام غرفة التجارة الدولية. في عام 2016، صدر حكم لصالح الشركة، لكن تنفيذ الحكم واجه تحديات بسبب الحصانة السيادية.

قضايا شركات البناء التركية ضد ليبيا

تعاقدت عدة شركات تركية منها شركة Öztaş Construction مع ليبيا لتنفيذ مشاريع بنية تحتية. توقفت المشاريع بسبب الأوضاع الأمنية، مما دفع الشركات إلى رفع قضايا تحكيم أمام غرفة التجارة الدولية. صدرت أحكام لصالح بعض الشركات، لكن تنفيذها لا يزال معلقًا.

قضية شركة سورليك (Sorelec) الفرنسية ضد ليبيا

تعاقدت شركة سورليك مع ليبيا لتنفيذ مشروع بنية تحتية. توقفت ليبيا عن السداد، مما أدى إلى لجوء الشركة للتحكيم. صدر حكم لصالح الشركة، لكن تنفيذه واجه تحديات قانونية.


تُظهر هذه القضايا التحديات التي تواجهها ليبيا في مجال التحكيم الدولي، خاصةً فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام واحترام الاتفاقيات الدولية. يعكس ذلك أهمية تعزيز البيئة القانونية والاستثمارية في البلاد لضمان جذب المستثمرين وحماية مصالح الدولة.

رابعاً: أشهر اتفاقيات التحكيم

اتفاقية نيويورك واتفاقية واشنطن (ICSID):

تعد اتفاقيتا نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، وواشنطن لعام 1965 بشأن تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا دول أخرى (ICSID)، من أهم المعاهدات الدولية في مجال تسوية النزاعات التجارية والاستثمارية. ومع ذلك، فإن ليبيا لم تنضم حتى اليوم إلى أي من هاتين الاتفاقيتين، وهو ما يطرح تساؤلات حول أسباب هذا الموقف وآثاره القانونية والاقتصادية.


ويجعل غياب ليبيا عن عضوية الاتفاقية تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية داخل أراضيها أكثر تعقيدًا، إذ يتعين على الأطراف الاعتماد على القواعد الوطنية الليبية، مما قد يحدّ من جاذبية ليبيا كبيئة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية.

كما أن غياب ليبيا عن عضوية ICSID يجعل المستثمرين الأجانب أكثر حذرًا عند ضخ استثماراتهم في السوق الليبية، لعدم توفر حماية قانونية دولية موثوقة. بالإضافة إلى أن غياب آلية تسوية دولية مستقلة يزيد من مخاطر الاستثمار، ويؤثر سلبًا على البيئة الاستثمارية بشكل عام.


ليبيا واتفاقيات الاستثمار الثنائية: جهود لتعزيز البيئة الاستثمارية

رغم أن ليبيا ليست طرفًا في بعض الاتفاقيات الدولية الكبرى المتعلقة بالاستثمار، مثل اتفاقية واشنطن (ICSID)، إلا أنها سعت إلى تعزيز مكانتها الاقتصادية وتوفير الحماية للاستثمارات الأجنبية عبر إبرام عدد من اتفاقيات الاستثمار الثنائية (BITs) مع العديد من الدول من بينها تركيا ومصر وفرنسا وغيرها.

تهدف هذه الاتفاقيات إلى تشجيع الاستثمارات المتبادلة بين الدول، وتوفير ضمانات مهمة للمستثمرين الأجانب، مثل الحماية من المصادرة دون تعويض عادل، وضمان المعاملة العادلة والمتساوية، وحرية تحويل الأرباح، واللجوء إلى التحكيم الدولي لتسوية النزاعات.​