بجلسة 22/5/2025، أبرز الحكم الصادر عن محكمة النقض في أبو ظبي بجلسة عددًا من الإشكاليات القانونية الهامة، في مقدمتها مسألة مدى احترام هيئة التحكيم لمبادئ الحياد والمساواة بين الخصوم، ومدى التزام المحكمة عند تشكيل الهيئة التحكيمية بإرادة الأطراف كما وردت في اتفاق التحكيم. كما تناول الحكم الإشكالية المتعلقة بتأثير زوال صفة أحد المحكمين (كخبير) على صلاحيته كمحكم، بالإضافة إلى حدود تدخل المحاكم عند النظر في دعوى بطلان حكم التحكيم، وما إذا كان يجوز لها إعادة فحص موضوع النزاع أو تقييم أدلة الخصوم. وقد شكل الحكم فرصة لتأكيد المبادئ المتعلقة بطبيعة الأسباب المقبولة لبطلان حكم التحكيم وفق القانون الاتحادي رقم 6 لسنة 2018 بشأن التحكيم.
أولاً: ملخص الوقائع
ترجع وقائع النزاع إلى دعوى بطلان أقامها المقاول الرئيسي أمام محكمة الاستئناف، طعنًا في حكم تحكيمي صادر لصالح مقاول من الباطن في دعوى نشأت عن عقد مقاولة من الباطن مبرم بتاريخ 23 ديسمبر 2017. وقد استند المقاول إلى عدة أسباب، أبرزها الإخلال بحق الدفاع، ومخالفة تشكيل الهيئة لما هو متفق عليه بالعقد، وزوال صفة أحد المحكمين بسبب شطبه من جدول خبراء محاكم دبي، إلى جانب ادعاءات تتعلق بمخالفة أحكام العقد والملاحق التابعة له. قضت محكمة الاستئناف برفض الدعوى، فطعن المقاول بالنقض، وأصدرت المحكمة حكمها برفض الطعن.
ثانياً: الدفوع ورد المحكمة عليها
- الإخلال بالحياد والمساواة: زعم الطاعن أن هيئة التحكيم أغفلت الطلبات المقابلة لها، مما أخل بحقوق الدفاع ومبدأ المساواة بين الخصوم. وقد ردت المحكمة بأن الهيئة تناولت وقائع وطلبات الدعويين الأصلية والمتقابلة، وفصلت فيها بما يكفي، ولا يُشترط أن تتبع الهيئة نمطًا قضائيًا معينًا في التسبيب طالما لم تُخرق قواعد النظام العام.
- مخالفة تشكيل الهيئة لما اتفق عليه الأطراف: دفع الطاعن بأن الهيئة التحكيمية لم تُشكّل وفقًا للبند السادس من العقد، الذي يشترط أن يتم تعيين المحكم المرجّح عن طريق غرفة تجارة وصناعة أبو ظبي. غير أن المحكمة أوضحت أن الطعن قد تقاعس عن تعيين محكمه رغم دعوته لذلك، ما اضطر المحكمة إلى التدخل وفقًا للمادة 13 من قانون التحكيم. وبما أن قرار التعيين الصادر أصبح نهائيًا وغير قابل للطعن، فإن الدفع يكون غير سديد.
- زوال صفة أحد المحكمين وتأثيره على الحيدة والاستقلالية: تعد مسألة الحيدة والاستقلالية من أبرز النقاط التي تحظى باهتمام كبير لدى العاملين في مجال التحكيم، سواء أكان التحكيم وطنيًا أو دوليًا. وتكثر الحالات التي تتعرض فيها المحاكم لفحص مدى توافر هذه الشروط لدى المحكمين. وفي هذا السياق، طرح الطاعن مسألة شطب أحد أعضاء الهيئة من جدول خبراء محاكم دبي، واعتبرت أن ذلك يمس حيدته ويؤثر على مشروعية الحكم.
وقد وقفت محكمة النقض على هذه النقطة بوصفها مسألة غير مسبوقة من حيث طبيعة الدفع، وانتهت إلى رفض النعي لثلاثة أسباب رئيسية:
1. لم يقم الطاعن بأي إجراء لرد المحكم وفقًا لما هو منصوص عليه قانونًا، ولم يعترض عليه في الميعاد المحدد.
2. زوال صفة الخبير لا يؤثر على تعيين المحكم، ولا يُشترط في المحكم أن يكون مقيدًا في جدول الخبراء.
3. يجوز تعيين المحكمين من غير القانونيين أو من تخصصات أخرى وفقًا لطبيعة النزاع، دون اشتراط أي قيد مهني.
وبناءً على ذلك، اعتبرت المحكمة أن ما أثير من الطاعن لا يصلح سببًا لبطلان الحكم التحكيمي.
- مخالفة العقد واستبعاد أحكامه: ادعى الطاعن أن الهيئة خالفت أحكام العقد وملاحقه، ولم تُلزم المطعون ضده بتقديم ضمانات الأجهزة، كما استبعدت ملاحق تم الاتفاق عليها سابقًا. غير أن المحكمة أكدت أن دعوى البطلان لا تتسع لإعادة النظر في جوهر النزاع أو تقييم الأدلة، وأن المحكمة تراقب فقط مدى صحة الإجراءات دون التدخل في تقديرات الهيئة أو تفسيرها للعقد، ما دام ذلك لم يُخالف النظام العام.
ثالثاً: المبادئ التي قررتها المحكمة
- تنصب دعوى بطلان حكم التحكيم على المخالفات الإجرائية دون الموضوعية، ولا تُقبل إلا لأسباب محددة على سبيل الحصر في المادة 53 من قانون التحكيم.
- زوال صفة الخبير لا يؤثر على صلاحية الشخص كمحكم، ولا يعد ذلك من موانع التعيين في ذاته.
- تقاعس الطرف المعترض عن اتخاذ الإجراءات القانونية لرد المحكم يسقط حقه في التمسك بعدم حياد المحكم لاحقًا.
- قرارات المحكمة المتعلقة بتشكيل هيئة التحكيم بناءً على طلب أحد الأطراف تكون نهائية، ولا يجوز الطعن عليها.
- رقابة المحكمة في دعوى البطلان لا تمتد إلى فحص موضوع النزاع أو تقييم الأدلة أو تفسير العقد.
رابعاً: مدى توافق الحكم مع المبادئ الدولية
يوضح حكم محكمة النقض التوافق الكبير مع نوعيات Estoppel المتعارف عليها دوليًا:
- Estoppel for delay : إسقاط الحق لعدم الطعن في الوقت المناسب.
- Estoppel by convention: منع الرجوع عن مواقف اعترفت بها الأطراف.
وهو ما يعزز ثقة المتقاضين ويطمئن تجاه شفافية الإجراءات التحكيمية. وبالتالي يمكن اعتبار الحكم الإماراتي جزءًا من توجه عالمي يكرس مبادئ العدالة التعاقدية والوقائية.
خامساً: أثر الحكم على المحامين
يمثل هذا الحكم مرجعًا قضائيًا مهمًا يؤكد على طبيعة دعوى البطلان وحدود تدخل القضاء في منازعات التحكيم، وهو ما يفرض على المحامين مسؤوليات مهنية متعددة. في مقدمتها، ضرورة الالتزام بالإجراءات المنصوص عليها في قانون التحكيم، خصوصًا فيما يتعلق بمباشرة إجراءات رد المحكمين والطعن في تشكيل الهيئة ضمن الآجال القانونية وأمام هيئة التحكيم. كما يُحتّم الحكم على المحامين الحرص على صياغة دقيقة لشروط التحكيم في العقود، وتحديد آليات التعيين والجهات المعنية بذلك لتجنب أي تعارض لاحق. كذلك، يتعين عليهم إدراك الفرق بين الأخطاء الموضوعية التي لا تصلح سببًا للبطلان، وتلك الإجرائية التي يمكن قبولها. وأخيرًا، يرسخ الحكم مبدأ جوهريًا يتمثل في أن دعوى البطلان ليست وسيلة لإعادة فتح النزاع، بل أداة رقابية تقتصر على ضمان سلامة الإجراءات القانونية دون المساس بتقدير هيئة التحكيم لموضوع النزاع.
خاتمة
يعد هذا الحكم سابقة قضائية مهمة إذ أكد مبدأ أساسيًا يتمثل في أن أهلية المحكم لا تُبنى على صفته كخبير بل على حياده واستقلاله، وأن الطعن في تشكيل الهيئة يجب أن يتم في الوقت المناسب، وإلا سقط الحق فيه. كل ذلك يرسل رسالة واضحة للممارسين القانونيين والمحامين حول الاهتمام الصارم بسلامة الإجراءات التحكيمية، وضبط شروط التحكيم في العقود وتفهم حدود دعوى البطلان، بما يعزز الثقة في المخرجات القضائية والتحكيمية على حد سواء.