مقدمة
بجلسة 8 مايو 2025، وضعت محكمة النقض المصرية، في حكمها في الطعنين 32779 و 32790 لسنة 93ق، حدًا لإشكالية قانونية تتعلق بمدى جواز الحكم بالتعويض بعملة أجنبية في معاملة تجارية محلية، مؤكدةً أن أحكام النظام العام النقدي تمثل قيدًا لازمًا على كل اتفاق أو حكم، سواء صدر عن المحاكم أو هيئات التحكيم.
وقد نشأت الدعوى عن نزاع بين مساهمين وأحد الكيانات الطبية الكبرى، حول تنفيذ التزامات ناشئة عن مذكرة تفاهم مبرمة بالجنيه المصري، انتهى بحكم تحكيمي ألزمهم بتعويض بالدولار الأمريكي. الأمر أثار جدلًا قانونيًا حول تعارض الحكم مع قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد، وأعاد طرح مسألة حدود سلطان الإرادة في مواجهة القواعد الآمرة.
بدأ النزاع حين أبرم الطرفان مذكرة تفاهم لشراء نسبة 49% من أسهم إحدى الشركات الطبية مقابل مبلغ مقدر بالجنيه المصري. وفي وقت لاحق، نشأت خلافات بشأن تنفيذ الالتزامات الواردة بالمذكرة، فلجأت الشركة إلى مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، وقد قضت هيئة التحكيم بإلزام الطاعنين بتعويض قدره نحو 145 مليون دولار أمريكي، بالإضافة إلى الفوائد.
ملخص الوقائع
اعترض الطاعنون على الحكم التحكيمي أمام محكمة استئناف القاهرة بدعوى البطلان، مستندين إلى مخالفته النظام العام النقدي وإلى وجود حكم سابق برفض صحة ونفاذ المذكرة. إلا أن محكمة الاستئناف رفضت دعوى البطلان، معتبرة أن الحكم التحكيمي صدر صحيحًا في نطاق اتفاق التحكيم، وأن ما أثير بشأن العملة لا ينهض سببًا للبطلان.
إزاء ذلك، طعن الخصوم أمام محكمة النقض، التي نظرت المسألة من زاوية مخالفة النظام العام النقدي وحجية الحكم السابق.
الإشكاليات والدفوع ورد المحكمة
1. حجية الحكم السابق: حيث اعتبر الطاعنون أن رفض الحكم السابق لصحة ونفاذ مذكرة التفاهم يمنع المطالبة بالتعويض عنها. وقد ردت المحكمة هذا القول مؤكدة أن الحكم السابق لم يتعرض لمسألة التعويض، بل اقتصر على تكييف المذكرة كاتفاق غير نهائي لا يصل لمرتبة البيع، وبالتالي لا يمنع نظر المطالبة بالتعويض عن الإخلال بها.
2. مخالفة النظام العام النقدي: أشار الطاعنون إلى أن المعاملة محل النزاع محلية ومقومة بالجنيه، وأن إلزامهم بالدولار يخالف المادة (111) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد، التي تحظر التعامل بغير الجنيه إلا في حالات استثنائية. وقد أيدت المحكمة هذا الدفع، حيث قررت أن أحكام النقد الأجنبي من النظام العام، وأن التعامل بالجنيه هو الأصل الملزم داخل مصر، ولا يجوز الخروج عنه إلا بنص قانوني أو اتفاقية دولية نافذة. وبما أن النزاع لم يندرج تحت أي استثناء، فإن الحكم التحكيمي خالف النظام العام مما يوجب بطلانه.
المبادئ القانونية التي أرستها المحكمة
1. لا تمتد حجية الأحكام إلا لما فصل فيه الحكم صراحة أو ضمنًا بضرورة حتمية.
2. التعامل بالعملة الوطنية التزام آمر، وأي مخالفة له في معاملة محلية تعد سببًا للبطلان.
3. حرية التعاقد مقيدة بعدم مخالفة القواعد الآمرة والنظام العام.
4. وجوب الإلتزام بالتعامل بالعملة الوطنية، فيجب سداد التعويضات في المعاملات الداخلية بالجنيه المصري إلا في الحالات القانونية المحددة.
مدى توافق الحكم مع المبادئ الدولية
يتوافق الحكم مع اتفاقية نيويورك 1958، التي تجيز رفض الاعتراف أو تنفيذ أحكام التحكيم إذا تعارضت مع النظام العام في دولة التنفيذ.
خاتمة
أكدت محكمة النقض بهذا الحكم أن النظام العام النقدي في مصر ليس مجرد نصوص تنظيمية، بل هو حد لا يمكن تجاوزه حتى في إطار التحكيم الذي يقوم على حرية الأطراف. وبذلك حسمت المحكمة النزاع لصالح الالتزام بالعملة الوطنية، وأرسلت رسالة واضحة مفادها أن أي حكم أو اتفاق يُلزم بأداء التزامات نقدية في معاملة محلية بعملة أجنبية دون سند قانوني أو دولي نافذ، سيكون عرضة للبطلان.