تعد العلاقة بين التحكيم الدولي والعقوبات الدولية من أكثر الموضوعات تعقيدًا في القانون الدولي، خاصةً عندما تتداخل مع قضايا تتسم بحساسية جيوسياسية. في هذا السياق، تناولت محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 27 نوفمبر 2024 قضية تتعلق بتأثير العقوبات الأوروبية على إنفاذ حكم تحكيمي يتعلق بعقود نفط وغاز في اليمن. سلطت هذه القضية الضوء على الإشكاليات القانونية المرتبطة بإمكانية إلغاء حكم تحكيمي إذا أدى تنفيذه إلى توفير أموال، ولو بشكل غير مباشر، لأطراف خاضعة للعقوبات.
ملخص الوقائع:
تناولت القضية عقود تنقيب وإنتاج النفط والغاز بين وزارة النفط والمعادن اليمنية، وشركة النفط والغاز اليمنية (YOGC)، وعدد من الشركات المحلية والدولية. فبعد رغبة الشركات في الانسحاب من هذه الاتفاقيات، تم اللجوء إلى التحكيم وفق قواعد غرفة التجارة الدولية .(ICC) وأسفر التحكيم عن حكم يلزم هذه الشركات بدفع تعويضات.
قامت الشركات برفع دعوى أمام محكمة استئناف باريس لإلغاء الحكم التحكيمي بدعوى تعارضه مع النظام العام الدولي، مستندةً إلى المادة 2.2 من لائحة المجلس الأوروبي رقم 1352/2014، التي تحظر إتاحة الأموال بشكل مباشر أو غير مباشر للكيانات أو الأفراد الخاضعين للعقوبات. رفضت محكمة الاستئناف الطلب. وعند إحالة القضية إلى محكمة النقض الفرنسية، أثارت الشركات مسألة انتهاك الحكم التحكيمي للنظام العام الدولي، مما استدعى مراجعة المحكمة للموضوع.
الحكم وأسانيده القانونية:
قضت محكمة النقض الفرنسية بتحويل ثلاث مسائل تمهيدية إلى محكمة العدل الأوروبية (CJEU)، بدلاً من الفصل النهائي في القضية. واستندت في ذلك إلى النقاط القانونية التالية:
1. قابلية مراجعة تدابير العقوبات الأوروبية: أشارت المحكمة بأن التدابير التقييدية للاتحاد الأوروبي تخضع للمراجعة القانونية أمام المحاكم الوطنية، بما في ذلك أحكام التحكيم التي قد تؤثر على العقوبات.
2. التفسير الموسع لمفهوم إتاحة الأموال: أكدت المحكمة أن محكمة العدل الأوروبية (CJEU) تقدم تفسيرًا واسعًا لمعيار (إتاحة الأموال)، ليشمل أي إجراء ضروري وفقًا للقانون الوطني لتمكين شخص ما من التصرف بحرية في الأصول المعنية.
3. الغموض حول الوضع السياسي في اليمن: لاحظت المحكمة أن الحالة الواقعية تتعلق بأسئلة معقدة حول عبء الإثبات، لا سيما في ظل عدم الوضوح بشأن الوضع السياسي في اليمن.
المسائل التمهيدية المطلوب نظرها من محكمة العدل الأوروبية:
1. هل يشمل مفهوم (الإتاحة غير المباشرة للأموال) المدفوعات المقدمة إلى كيانات عامة غير مستهدفة مباشرة بالعقوبات، في حالة وجود دليل على تأثير الأفراد أو الكيانات الخاضعة للعقوبات على هذه الكيانات العامة؟
2. عند إثبات هذا التأثير، هل يُفترض أن الكيانات المتلقية للأموال خاضعة لسيطرة الأطراف المعاقبة، وهل يمكن دحض هذه الفرضية؟
3. هل يكفي وجود خطر معقول بأن تستفيد الأطراف الخاضعة للعقوبات لاحقًا من الأموال لتطبيق العقوبات؟
أهمية الحكم:
قررت محكمة النقض الفرنسية وقف الإجراءات وإحالة المسائل سابقة البيان إلى محكمة العدل الأوروبية، مبررةً ذلك بأن تفسير المادة 2.2 لم يكن واضحًا بما يكفي لإزالة أي شك معقول.
ويمثل هذا الحكم إشارة هامة للمجتمع القانوني حول الحاجة إلى نهج متزن عند التعامل مع حالات مشابهة، مع الأخذ بعين الاعتبار التداخل بين قواعد التحكيم ومبادئ النظام العام الدولي.
نقلاً عن: إيوانا نول تيودور (Ioana Knoll-Tudor)
محامية تحكيم دولي، وشريك بشركة أدليشو جودارد (Addleshaw Goddard)، والسكرتير العام لمؤسسة (Paris Arbitration Week (PAW))، ونائب رئيس نادي التحكيم الاسباني برومانيا (Club Espanol de Arbitraje (CEA) Romania)