2025/04/09

تُبرز النزاعات المرتبطة باختصاص التحكيم أمام القضاء الدولي تعقيد التفاعل بين العقود التجارية عبر الحدود والتشريعات الوطنية، خاصة في القضايا التي تشمل أطرافًا من جنسيات مختلفة. في هذا السياق، تصدت محكمة الاستئناف المدنية في إنجلترا وويلز، بجلسة 3 أبريل 2025، لقضية مهمة تتعلق بطلب إصدار أمر قضائي بمنع دعاوى قضائية أُقيمت في روسيا، بزعم مخالفتها لاتفاق تحكيم نافذ. يستعرض هذا المقال ملابسات القضية، والتحليل القانوني الذي تبنته المحكمة، وانعكاسات الحكم على مستقبل تسوية النزاعات التحكيمية الدولية.

ملخص الوقائع

أطراف النزاع هم شركة Renaissance Securities في قبرص من جهة ومجموعة شركات روسية من جهة أخرى وقد وقعت بين الطرفين اتفاقيات خدمات استشارية تضمنت شرطاً تحكيمياً ينص على خضوع النزاعات للقانون الإنجليزي وتسويتها عن طريق التحكيم وفق قواعد مركز لندن للتحكيم الدولي.

لاحقاً قامت الشركات الروسية برفع دعاوى أمام المحاكم الروسية زاعمةً وجود حقوق قانونية مستقلة عن الاتفاقيات المبرمة ورداً على ذلك لجأت شركة Renaissance  إلى المحكمة العليا في إنجلترا طالبة إصدار أمر قضائي بمنع تلك الدعاوى الأجنبية بحجة مخالفتها للاتفاق التحكيمي.

رفضت المحكمة الابتدائية الطلب معتبرةً أن هناك غموضاً في وجود جهة قضائية بديلة مناسبة للفصل في النزاع مما دفع الشركة المدعية إلى الطعن في الحكم أمام محكمة الاستئناف في إنجلترا وويلز.

الحكم وأسانيده القانونية

قضت محكمة الاستئناف بإلغاء الحكم الابتدائي وإعادة القضية إلى المحكمة للنظر فيها مجددًا وفق المبادئ الصحيحة. وأبرز ما ورد في الحكم:

1.   الاختصاص القضائي في أوامر منع الدعاوى الأجنبية

أكدت المحكمة أن صلاحية المحاكم الإنجليزية في إصدار أوامر منع التقاضي تهدف إلى حماية العملية التحكيمية من التعدي، ومنع تفتت النزاع عبر أنظمة قضائية متعارضة. ورغم الطبيعة الاستثنائية لهذه الأوامر، فإنها مبرّرة قانونًا عندما تكون:

·       المحاكم الإنجليزية هي الجهة القضائية الأنسب،

·       الدعوى الأجنبية مجحفة أو تعسفية،

·       هناك انتهاك صريح للشرط التحكيمي أو اختصاص حصري.


2.   رفض اشتراط وجود (جهة قضائية بديلة)

رأت المحكمة أن الحكم الابتدائي قد أخطأ بتقييده إصدار الأمر القضائي بوجود منتدى بديل. وأكدت أن وجود اتفاق تحكيم واضح يكفي لتبرير إصدار أمر المنع دون حاجة لتوافر محكمة أخرى بديلة.

3.   تقييم مشروعية الدعاوى الروسية

تناولت المحكمة فحص ما إذا كانت الدعاوى الروسية تمثل تحايلاً على شرط التحكيم. وأشارت إلى أن مجرد إقامة دعاوى خارج إنجلترا لا يعني بالضرورة مخالفتها، ما لم يثبت أنها محاولة للتحايل على الاتفاق التحكيمي.

4.   اعتبارات المصلحة العامة

أوضحت المحكمة أن أوامر منع الدعاوى قد تُستخدم لحماية النظام القانوني الإنجليزي من محاولات الإخلال به أو التحايل عليه، بما في ذلك التحايل على العقوبات الدولية أو تهديد نزاهة منظومة التحكيم البريطانية.

السوابق القضائية المعتمدة

استندت المحكمة في حكمها إلى عدد من القضايا البارزة التي أرست المبادئ الحاكمة لهذه المسألة، ومنها:

  • Donohue v Armco Inc: التي أكدت الطابع الاستثنائي لاستخدام أوامر منع الدعاوى الأجنبية.
  • Airbus Industrie G.I.E. v Patel:  التي فرقت بين القضايا التي يُشترط فيها جهة قضائية بديلة، وتلك التي لا يُشترط فيها ذلك.
  • SAS Institute Inc v World Programming Ltd: التي أرست مرونة المبادئ عند النظر في دعاوى المنع.

خاتمة

تعكس هذه القضية التوتر الكامن بين احترام إرادة الأطراف في اللجوء إلى التحكيم وبين محاولات بعض الأطراف للتحايل على تلك الاتفاقات عبر اللجوء إلى محاكم أجنبية. ومن خلال حكمها، رسخت محكمة الاستئناف مبدأً أساسيًا مفاده أن الاتفاقات التحكيمية تحظى بحماية قوية في النظام القانوني الإنجليزي، وأن خرقها قد يؤدي إلى تدخل قضائي فعال. كما يشكل الحكم تذكيرًا بأهمية الصياغة الدقيقة لشروط التحكيم، وضرورة احترام حدود الاختصاص القضائي المتفق عليها تعاقديًا.