2025/06/10

يعد التحكيم من الوسائل البديلة الفعالة لتسوية المنازعات. وقد استجاب المشرع الفلسطيني لهذه الحاجة بإصدار قانون التحكيم رقم (3) لسنة 2000، الذي ينظم آليات التحكيم المحلي والدولي، مستندًا إلى مبادئ قانون الأونسيترال النموذجي لضمان توافق التشريع الفلسطيني مع المعايير الدولية. ومع الانضمام إلى اتفاقية نيويورك 1958 وتوقيع اتفاقيات الاستثمار الثنائية، عززت فلسطين إطارها القانوني للتحكيم. ورغم ذلك، تواجه فلسطين تحديات عدة في تنفيذ أحكام التحكيم، سواء بسبب أوجه القصور الإدارية والقضائية أو الظروف السياسية والأمنية التي تؤثر على فعالية هذا الإطار القانوني.

الإطار القانوني العام

ينظم التحكيم في فلسطين قانون التحكيم رقم (3) لسنة 2000، الصادر عن المجلس التشريعي الفلسطيني، وهو القانون الأساسي الذي يحكم إجراءات التحكيم سواء كان محليًا أو دوليًا، ويُعدّ امتدادًا لتقاليد التحكيم التي كانت سائدة بموجب القوانين الأردنية والمصرية السارية سابقًا في الضفة الغربية وقطاع غزة.

مدى توافق القانون مع قانون الأونسيترال النموذجي

وقد جاء القانون الفلسطيني مستندًا في العديد من أحكامه إلى مبادئ قانون الأونسيترال النموذجي، مما يعكس رغبة المشرّع الفلسطيني في مواءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية.

المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم

نصت المادة (4) من القانون على أنه: لا تخضع لأحكام هذا القانون المسائل الآتية:

1.   المسائل المتعلقة بالنظام العام في فلسطين.

2.   المسائل التي لا يجوز فيها الصلح قانوناً.

3.   المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية.

وعليه، فإن المشرع استبعد صراحة المسائل التي لا يجوز فيها الصلح من نطاق التحكيم، لما تتضمنه من ارتباط وثيق بالنظام العام أو من طابع شخصي لا يقبل التصرف فيه.

وقد أحال المشرع في تحديد هذه المسائل إلى القواعد العامة في القانون، إذ لم يورد قائمة حصرية لها، إلا أن الفقه والقضاء قد استقرّا على أن هذه المسائل تشمل، على سبيل المثال لا الحصر:

  • المسائل الجنائية: إذ تتعلق بحق الدولة في العقاب ولا تقبل التصرف.
  • الأحوال الشخصية: مثل الزواج والطلاق والنسب والحضانة، إلا في الجوانب المالية التي يجوز فيها الصلح مثل النفقة.
  • الحقوق المرتبطة بالنظام العام: كالجنسية، والشرعية الدستورية، والمركز القانوني للأشخاص الاعتبارية العامة.
  • الضرائب والغرامات الإدارية والجزاءات التأديبية: كونها حقوقًا سيادية للدولة.

موقف فلسطين من الاتفاقيات الدولية

اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID)

حتى الآن، لم تنضم فلسطين إلى اتفاقية واشنطن .(ICSID) ويعود ذلك بشكل أساسي إلى أن عضوية هذه الاتفاقية مرتبطة بعضوية الدولة في مجموعة البنك الدولي، وهي العضوية التي لم تحصل عليها فلسطين بعد بشكل كامل، نظرًا لوضعها السياسي الدولي كدولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة. ورغم ذلك، تسعى فلسطين إلى تعزيز إطارها القانوني للاستثمار الأجنبي، ويمكن أن تعتمد على آليات تحكيم بديلة مذكورة في اتفاقيات الاستثمار الثنائية التي أبرمتها مع دول أخرى.

اتفاقية نيويورك 1958

انضمت دولة فلسطين إلى اتفاقية نيويورك لعام 1958 بتاريخ 29 ديسمبر 2015، ودخلت الاتفاقية حيز النفاذ بالنسبة لها في 28 مارس 2016. ويعد هذا الانضمام تطورًا مهمًا في تعزيز بيئة التحكيم التجاري الدولي في فلسطين، حيث يُتيح للدولة طلب تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية في الدول الأطراف في الاتفاقية، كما يوجب عليها تنفيذ الأحكام الصادرة في تلك الدول وفقًا لشروط الاتفاقية. وقد عُدّ هذا الانضمام خطوة قانونية أساسية تؤكد التزام فلسطين بمبادئ التحكيم التجاري الدولي وتشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

اتفاقيات الاستثمار الثنائية  (BITs)

وقعت فلسطين عددًا من اتفاقيات الاستثمار الثنائية (BITs) مع دول عدة، من بينها ألمانيا، فرنسا، تركيا، مصر، روسيا، وسويسرا. وتُشكّل هذه الاتفاقيات جزءًا مهمًا من الإطار القانوني لحماية الاستثمارات الأجنبية في فلسطين، حيث تنص معظمها على اللجوء إلى التحكيم الدولي كوسيلة لحل النزاعات بين المستثمر والدولة. وعلى الرغم من عدم عضوية فلسطين في مركز ICSID، فإن بعض هذه الاتفاقيات تتضمن خيارات بديلة للتحكيم مثل قواعد الأونسيترال أو التحكيم المؤسسي عبر مراكز أخرى. ويؤكد توقيع هذه الاتفاقيات رغبة فلسطين في تعزيز مناخ الاستثمار وحماية حقوق المستثمرين.

أبرز القضايا

قضية A. AG ضد دولة فلسطين (السلطة الفلسطينية) – تحكيم تجاري في زيورخ

في عام 2013، رفعت شركة A. AG من ليختنشتاين دعوى تحكيم ضد دولة فلسطين، تتعلق بمشروع تطوير كازينو وفندق في الأراضي الفلسطينية. تم التحكيم وفقًا لقواعد مركز التحكيم السويسري (SCAI) في زيورخ، وصدرت ثلاثة أحكام تحكيمية بين عامي 2016 و2020. كما نظرت المحكمة الفيدرالية السويسرية في طعون تتعلق بالاختصاص والموضوع. وتعد هذه القضية من أبرز النزاعات التجارية الدولية التي شاركت فيها فلسطين كطرف رسمي.

قضية Sokolow ضد منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية – دعوى مدنية في الولايات المتحدة

في عام 2015، حكمت محكمة فيدرالية أمريكية لصالح ضحايا أمريكيين لهجمات وقعت في إسرائيل، وألزمت منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية بدفع تعويضات قدرها 655 مليون دولار. إلا أن محكمة الاستئناف الأمريكية ألغت الحكم في عام 2016 بسبب عدم الاختصاص الإقليمي، ورفضت المحكمة العليا الأمريكية النظر في الاستئناف، مما أدى إلى إنهاء القضية.

تنفيذ أحكام التحكيم في فلسطين

تنص المادة (47) من قانون التحكيم الفلسطيني على أنه:

(يكون لقرار التحكيم بعد تصديقه من المحكمة المختصة القوة والمفعول التي لقرارات المحاكم ويتم تنفيذه بالصورة التي ينفذ فيها أي حكم أو قرار صادر عن محكمة وفقاً للأصول المرعية).

كما تنص المادة (48) على:

حالات رفض تنفيذ قرار تحكيمي

مع مراعاة الاتفاقيات الدولية التي تكون فلسطين طرفا فيها والقوانين المعمول بها في فلسطين، يجوز للمحكمة المختصة ولو من تلقاء نفسها رفض تنفيذ قرار تحكيم أجنبي في إحدى الحالتين التاليتين:

1.   إذا كان القرار مخالفاً للنظام العام في فلسطين.

2.   إذا كان القرار لا يتفق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية المعمول بها في فلسطين.

شروط تنفيذ حكم التحكيم المحلي

لا يُنفذ حكم التحكيم المحلي في فلسطين إلا بعد التحقق من عدة شروط قانونية، منها:

  • أن يكون الحكم صادراً وفقاً لأحكام قانون التحكيم رقم 3 لسنة 2000.
  • أن يكون مبرمًا ونهائيًا.
  • ألا يكون محل طعن ببطلان قائم أمام المحكمة أو أن يكون الطعن قد رُفض.
  • ألا يخالف الحكم النظام العام الفلسطيني.

وبعد التأكد من توافر هذه الشروط، تُصدر المحكمة قرارًا بتصديقه وتمنحه الصيغة التنفيذية، مما يتيح تنفيذه بذات الطريقة التي تُنفذ بها الأحكام القضائية.

تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية

أما بالنسبة لأحكام التحكيم الأجنبية، فتخضع في فلسطين لأحكام اتفاقية نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها. وبموجب هذه الاتفاقية، تُنفذ أحكام التحكيم الأجنبية في فلسطين بشرط:

  • أن يكون الحكم صادرًا في دولة طرف في الاتفاقية وتُعامل فلسطين بالمثل.
  • ألا يتعارض الحكم مع النظام العام الفلسطيني.
  • أن يُقدَّم طلب التنفيذ مرفقًا بنسخة أصلية أو مصدقة من الحكم واتفاق التحكيم.

تحديات التنفيذ

تواجه المحاكم الفلسطينية تحديات إدارية وقضائية تتمثل في نقص الخبرة الفنية في قضايا التحكيم مما يؤدي إلى بطء في إصدار قرارات التصديق والتنفيذ، إضافةً إلى ازدحام العمل القضائي الذي يعيق سرعة الإجراءات.

كما تشكل الأوضاع السياسية والأمنية في فلسطين عائقًا كبيرًا أمام تنفيذ أحكام التحكيم، خاصة في النزاعات التي تشمل أطرافًا دولية أو مناطق متنازع عليها، حيث تؤثر التدخلات الأمنية والاحتلال على سلطة القضاء وتحد من فعالية تنفيذ الأحكام في بعض مناطق السلطة الفلسطينية.

خاتمة

يمثل تنظيم التحكيم في فلسطين خطوة مهمة نحو تطوير نظام قضائي متكامل يراعي خصوصيات البيئة الوطنية ويلتزم بالمعايير الدولية. إن قانون التحكيم الفلسطيني واتفاقية نيويورك واتفاقيات الاستثمار الثنائية تشكل قاعدة صلبة لتعزيز ثقافة التحكيم وحماية الحقوق القانونية. ومع ذلك، فإن نجاح هذا النظام يظل مرتبطًا بمدى قدرة المؤسسات القضائية على معالجة التحديات الفنية والإدارية، بالإضافة إلى التغلب على العراقيل السياسية والأمنية التي تؤثر على تنفيذ الأحكام. لذلك، يتطلب الأمر استمرار العمل على تطوير الإطار التشريعي والمؤسسي، فضلاً عن تعزيز الاستقلال القضائي ودعم آليات التنفيذ، لضمان فعالية التحكيم كوسيلة ناجحة ومستدامة لتسوية المنازعات في فلسطين.