اللغة هي إحدى الوسائل التي يعبر بها الإنسان عن فكره وثقافته ومكنون نفسه، بل هي أهم هذه الوسائل، فاللغة بيت الوجود، في دارها يسكن الإنسان، وأولئك الذين يفكرون ويبدعون بكلماتها هم حراس هذا البيت، وتعتبر اللغة سمة أساسية للهوية الوطنية، وأقوى العناصر في بناء الترابط في المجتمع. فاللغة ليست مجرد وسيلة للتفاهم مع الأخرين، وإنما تشكل في الوقت ذاته عاملا ً قويا ً ومؤثرا في تحديد شخصية الأفراد والجماعات، كونها جزء ومكون أساسي للهوية البشرية. ولذا تحرص كل دولة علي تحديد لغتها الرسمية، بل إن هذا التحديد يرتفع في العديد من البلدان إلى مصاف القواعد الدستورية، والتي ينبغي على كل سلطات الدولة الالتزام بها والتقيد بمقتضياتها، وقد نصت دساتير اغلب الدول على تحديد اللغة الرسمية للدولة منها على سبيل المثال (المادة الثانية من الدستور المصري - المادة الثانية من الدستور الأردني- المادة 11 من الدستور اللبناني- المادة الثالثة من الدستور الكويتي..)
ويؤكد بعض الباحثين أن اللغة تمثل ثروة اقتصادية، وأن تراكم المعرفة بها يعادل - في الأهمية والقيمة - تراكم الثروة المادية في باطن الأرض وعلى ظهرها وفي خزائن البنوك. ويتفق في ذلك عالم الاقتصاد الأمريكي (روبرت لولوا) في نظريته عن (النمو الجديد)، إذ يرى أن تعلم اللغة يعد استثمارا مثاليا طويل الأجل، تزيد فوائده كلما أحسنت مؤسسات التعليم حسن إدارته واستشراف أهميته.
ولكل ما سبق، لا يخفي علينا أهمية اللغة خاصة للمحامي، كون المحاماة أكثر الأعمال التي يتطلب فيها التعامل اللغوي الصحيح والواضح، سواء التعامل اللغوي الشفوي في المرافعة والتعامل مع العملاء، أو اللغة المكتوبة في مختلف الوثائق القانونية من مذكرات وعقود..، والتي يلزمها أن تكون صحيحة الصياغة لغة وقانوناً.
فالنص القانوني يعد بمثابة النسيج الذي يتعين أن تتشابك خيوطه، في تناسق وتناغم، لكي تستوي النتيجة المبتغاة منه، فالغاية النهائية من النص القانوني هي أن يكون خطابا مفهوما لمتلقي هذا الخطاب.
وقد أدي الضعف المعرفي اللغوي إلى نقصان البناء القانوني الصحيح للقانونين عموما وللمحامين خصوصا، هذا أدي إلى مشاكل حقيقية وغير قليلة إزاء طريق تحقيق غاية القانون في حماية الحق وفي إقامة العدالة الناجزة وتحقيق هدف الردع العام والخاص، كما أدي ضعف الصياغة القانونية إلى إشكالات جوهرية ونزاعات متطاولة في التفسير والتأويل ما بين سلطات الاتهام والدفاع والحسم بما يؤثر على المتخاصمين وعلى الوضع القضائي برمته، وبما يُشغل مؤسسات العدالة بالكثير من النزاعات والطعون الناتجة عن الخطأ في الفهم والتفسير والتوجيه، مع ما يتبع ذلك من تأخير في الأحكام وتعطيل المحاكمات وبطء في تحقيق العدالة.
هذا بالإضافة إلى ضعف صياغة الأحكام وهلهلة بنيانها اللغوي وتدني حبكتها المنطقية يؤدي إلى اختلاف وتنازع منطقها بما يؤدي إلى لجوء أطراف الدعوي للطعن على تلك الأحكام بطرق الطعن المختلفة، الشيء الذي يؤدي إلى بطء العدالة، ومن ثم الإضرار بأطراف الدعوي.
حيث وجد في دراسة عن أسباب بطء العدالة أنه من بين الأسباب الرئيسة لذلك سبب يرجع إلى أطراف الدعوة وموكليهم بسبب إشكالات ترجع في جملتها إلى التباس لغة القانون أو لغة الأحكام وغموض صياغاته.
وبالتالي يجب على كل محام؛ بل وقانوني أن يقوم بتحصيل كل ما يستطيع من معارف اللغة سواء اللغة العربية أو الأجنبية، ومهاراتها (الصوتية والكتابية) تحصيلا مستداما وان يسعي للتمكن منها وتطبيقها في:
أ- أعماله القانونية الشفاهية (في المرافعات والمخاطبات والمناقشات والمراجعات وسائر المواقف القانونية الكلامية) فيُؤدِّيها ملتزماً بالنطق الصحيح والأداء الفصيح.
ب- أعماله القانونية الكتابية (كتابة المذكرات والعرائض والعقود وسائر المكاتبات القانونية…) فَيُحكِمُ صياغتها بلغة عربية سليمة بليغة خالية من الأخطاء.
وهذا التمكين اللغوي يؤهل المحامي من أداء رسالته الدفاعية (كتابة ومشافهة) على أتم وجه باستخدام الأدوات والأساليب اللغوية الإبداعية السليمة مع إتقان النطق الصحيح والأداء الفصيح للغة القانونية، هذا يؤدي إلى ردم الفجوة وتضييق الهوة ما بين علمي القانون وعلوم اللغة ومهاراتها وهي ما يمكن تسميته (بالفجوة اللغوية القانونية).
بالإضافة إلى أن التكوين اللغوي الصحيح من الممكن أن يكون سبب في تحقيق العدالة الناجزة، والتقليل من الاختلاف والتنازع حول تفسير النصوص، بما يحقق هيبة العدالة وقدر القانون، وتمكين دولة القانون والعدالة.