التفكير النقدي والملكات القانونية
المحامي وليد عثمان

المحامي وليد عثمان

شريك مؤسس شورى للمحاماة والتحكيم رئيس الاكاديمية الدولية للوساطة والتحكيم .
2023/03/14

التفكير النقدي والملكات القانونية

تمر عملية الكتابة القانونية أو إعداد المرافعة الشفوية بأربع مراحل المرحلة الأولي هي مرحلة الاستكشاف والتحصيل، وتطلب مهارات في البحث والتفتيش عن المعلومات والوقائع مثل مهارة الحديث والانصات وايضاً مهارة طرح الاسئلة، وفي المرحلة الثانية وهي مرحلة التفكير، يتم تصنيف وفرز المعلومات والوقائع، للوصول إلي أدلة مقبولة وتكييف قانوني سليم للوقائع، وتطلب مهارات الإدراك والتحليل والاستنتاج وفي المرحلة الثالثة تطبيق القواعد القانونية، بإنزال حكم القاعدة القانونية علي الواقع محل الدعوي، وهذا يتطلب أولاً تحديد القواعد واجبة التطبيق، ثم تطبيقها علي وقائع الدعوي، مع حسن تأويل وتفسر لهذه القواعد، وفي المرحلة النهائية يتم التعبير عن هذا الأفكار في صورة عريضة دعوى، أو مذكرة جوابية، أو مرافعةً شفوياً، أو حكماً قضائياً، أو طعناً أو استشارة وهذا يتطلب مهارة الكتابة القانونية وفن الإلقاء وحسن الأداء والعرض.

ولكن يثور التساؤل عن المهارات والملكات القانونية التي يجب أن تتوافر لدي الشخص المكلف بهذا العمل، ولكن قبل ذلك يجب أن نعرف بمعني المَلَكَةُ، فالملكة لغةً هي الصفة الراسخة في النفس أو استعداد عقلي خاص لتناول أعمال معينة بحذق ومهارة مثل الملكة اللغوية والملكة العددية، أما الملكة القانونية تعني امتلاك رجل القانون- القاضي أو المحامي أو الباحث أو المحكم-  منهجاً للتفكير السليم في المعطيات القانونية والتعامل معها، بما يعينه علي القيام بالمهام الموكلة إليه، كما يمكنه من إدراك المستحدثات القانونية، وحسن التعامل معها؛ لذلك يري البعض أن يجب عليه العلم بالقانون وأصوله، بالإضافة إلى التمكن من اللغة سواء العربية أو غيرها من اللغات باعتبارها أداة تعبيره عن أفكاره، فاللغة مرآة العقل، هذا فضلاً عن الإلمام بأساسيات علم المنطق، بينما يري البعض الآخر أنه ينبغي على القانوني التمتع بمهارات التمكن من اللغة، والإحاطة بالعلوم الاجتماعية الأخرى ذات الصلة بالقانون، مصدقاً للمقولة الشهيرة " التمكن من القانون يكون بالإبحار خارجه"، مع القدرة على تشييد الحجج وتقييمها، وأيضا هناك من يرى أن رجل القانون يجب أن يكون ملماً بالموضوعات المنطق Logic، التحليل Analysis، الجدل والمحاجاة Argumentation، التأويل  .Hermeneutic

فلا غرابة في أن تهتم جامعات الدول الغربية مثل جامعات Yale  وجامعات هارفارد وستانفورد وكولومبيا في أمريكا، وجامعات كمبردج، ولندن وأكسفورد ودوهارم في انجلترا، بمهارات البحث العلمي، وتدريب الدارسين على منهج التفكير العلمي، وتكوين ملكات التفكير القانوني لديهم، حيث تبدأ بتعليم الدارسين مناهج التفكير المنطقي، وصولاً إلى مستوى تفكير المحامي  Thinking like a lawyer باعتباره النموذج المثالي للتفكير المنطقي، حيث يمارس المحامي أثناء عمله كل أنواع التفكير، كما يقوم الدارسون بإعداد بحوث مبتكرة تحت إشراف جاد من الأستاذ. فالمناهج الدراسية في كليات القانون في الغرب تبتعد عن طرق التلقين، وتعتمد على أساليب التفكر المنهجي، وتشجع الدارسين على البحث والإبداع. لذلك تركز الدول الغربية على إصلاح التعليم العام، وتمرين الدارسين منذ نعومة أظافرهم علي أساليب التفكير المنطقي، وتزرع فيهم ملكة الابتكار ، والإبداع ، وشجاعة النقد ، وحرية الرأي.

ويعتبر منهجية التفكير النقدي من أهم المناهج التي تساعد رجل القانون على دراسة القضية؛ حيث يقوم بنشاط ذهني متقن لوضع المفاهيم، وتحليل وتركيب وتطبيق وتقييم المعلومات، للوصول إلى إجابة أو استنتاج مدعومة بالأدلة.[1]

وتعتمد منهجية التفكير النقدي على عدد من الخطوات للوصول لنتيجة واستنتاج منطقي؛ حيث يجب على رجل القانون أولاً جمع المعلومات والوقائع المتصلة بموضوع القضية، ثم تستعرض طلبات الخصوم وأسانيدهم القانونية والواقعية المتصلة بالدعوي، وبعدها مناقشة وتحليل هذا الاسانيد وصولاً لدليل سائغ ومقبول، لتتميز نقاط القوة والضعف لدي الخصوم، بما يمكنه من تقييمها بطريقة موضوعية بعيدة عن التحيز والميل، فتكون القضية مهيأة للفصل فيها بحكم قائم علي الحجة والبرهان، وسندٍ من الواقع والقانون لا يحتمل الشك، وقد يستعدي الأمر مراجعة المزيد من المعلومات إذا ما استدعى البرهان والحجة ذلك.

ويتطلب هذا النوع من التفكير توافر ملكات مختلفة في رجل القانون، فيجب أن يكون لديه القدرة على ملاحظة الوقائع والأحداث، والتقييم الموضوعي للموضوعات والقضايا، والنزاهة الفكرية، وقد تكون هذه الملكة جبلية.

ولتنمية هذا النوع من التفكير، فإن ذلك يتطلب مراعاة عدد من العوامل المتصلة، وهي النقد العلمي، وعدم الانقياد لوجهات النظر والآراء المرسلة التي يتداولها الناس دون سند، البعد عن الانحيازيات الشخصية والتعصب لها، مع استبعاد الآراء الشاذة والمتطرفة، وعدم التسرع في الاستنتاج، وتجنب التأثيرات العاطفية.

ومنها تظهر أهمية تعلم التفكير النقدي لأعضاء منظومة العدالة من مشرعين وقضاة ومحامين ومحكمين وباحثين؛ باعتباره المعين على قيامهم بمهامهم اليومية المختلفة، بل ويكسبه العديد من المَلَكَات القانونية:

  • أولاً: مهارة التحليل القانوني للوقائع والنصوص القانونية،
  • ثانياً: القدرة على تسبييب الأحكام وإقامتها على أساس منطقية،
  • ثالثاً: مهارة تقييم أساس الادعاء وأدلته، والرد على الطلبات والدفوع، ومجادلة الخصوم والتعليق والطعن على الأحكام القضائية،
  • رابعاً: القدرة على تحقيق القضايا ووضع الحلول القانونية المناسبة لها،
  • خامساً: كفاءة الفصل في الأنزعة المختلفة بحكمٍ صائبٍ.

فإذا افتقد رجل القانون هذه المنهجية وتلك الملكة، أصبح حكمه أو رأيه غير سديد وجدير بالطعن أو الرد، فمثلا قد تستند المحكمة إلى أدلة غير صالحة من الناحية الموضوعية للاقتناع بها. أو إلى فهم الواقعة التي ثبتت لديها. أو وقوع تناقض بين هذه العناصر. أو عدم اللزوم المنطقي للنتيجة التي انتهى إليها بناء على تلك العناصر، في جميع الأحوال السابقة يكون حكمها موصوم بالفساد في الاستدلال.

وعملية الاستدلال تظهر فيها جميع مراحل التفكير النقدي باعتباره من أهم أدوات رجل القانون لسبر غور المجهول، ومعرفة الأسباب التي تكمن وراء الأحداث والظواهر، وليس هذا فحسب بالاستدلال نفسر مضمون النصوص القانونية من حكم، وتحديد الفرض الواقعي المنطق عليه، فمثلاً الطبيب يستدل من العرض لمعرفة سبب المرض، ورجل الشرطة الذي يحقق في جريمة قتل غامضة، يستدل من عدم وجود كسر بباب الشقة، على وجود علاقة بين الجاني والمجني عليه، والقاضي يستدل من الأوراق والمستندات على الحقائق والمعلومات.

المحامي / وليد عثمان

شريك مؤسس شورى للمحاماة والتحكيم

رئيس الأكاديمية الدولية للوساطة والتحكيم

[1] Critical – Define Critical at Dictionary.com, https://www.dictionary.com/browse/critical.

لتعلم المزيد من مهارات التفكير القانوني وتحليل النصوص القانونية أنضم للمشاركين في الشهادة المهنية في الملكات القانونية

45 ساعة - 3 مستويات للتسجيل اضغط هنا