يشهد العالم تطورًا متسارعًا في استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، بما في ذلك الأنظمة القضائية. فقد أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل ChatGPT، تُستخدم في تحليل القضايا، وتقييم الأدلة، وحتى المساعدة في صياغة الأحكام القانونية. ومع ذلك، يظل السؤال المطروح: إلى أي مدى يمكن للقضاء الاعتماد على الذكاء الاصطناعي دون المساس بمبادئ العدالة؟
وفي هذه القضية أثار القضاة نقاشًا غير مسبوق حول دور الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرارات القضائية، حيث استعان أحد القضاة بأداة ChatGPT لتقييم ما إذا كان ترك كلب في سيارة مغلقة جزئيًا في يوم حار يشكل خطرًا معقولًا، بينما أبدى قضاة آخرون تحفظات على موثوقية هذه الأدوات.
هذه القضية تعكس التحديات القانونية والتقنية التي تواجه الأنظمة القضائية عند دمج الذكاء الاصطناعي في عملياتها. فبينما يوفر الذكاء الاصطناعي تحليلًا سريعًا للبيانات وتقييمًا قائمًا على المعرفة العامة، فإنه يطرح أيضًا تساؤلات حول دقته، وحياده، ومدى إمكانية استبداله بالتقييم البشري المستند إلى الأدلة القاطعة.
في هذا السياق، تبرز أهمية هذه القضية كنقطة تحول في كيفية تعامل المحاكم مع الأدوات الذكية، ومدى قدرتها على التوفيق بين الابتكار التكنولوجي وضمان تحقيق العدالة وفقًا للمعايير القانونية التقليدية.
ملخص الوقائع
نظرت محكمة الاستئناف في مقاطعة كولومبيا قضية نييا روس، والتي تتعلق باتهام المتهمة بارتكاب جريمة القسوة على الحيوانات بعد تركها كلبها في سيارة مغلقة جزئيًا في يومٍ حار.
ففي سبتمبر 2023، تركت نييا روس كلبها (سينامون) في سيارة متوقفة في ظل جزئي، مع فتح النوافذ بضع إنشات فقط، بينما بلغت درجة الحرارة الخارجية 98 درجة فهرنهايت (حوالي 37 درجة مئوية). وقد لاحظ أحد المارة نباح الكلب المستمر، مما دفعه إلى الاتصال بالسلطات. واستجابت فرق الطوارئ، بما في ذلك الشرطة ورجال الإطفاء، الذين أخرجوا الكلب بالقوة. وعند عودة المتهمة إلى المكان، تم القبض عليها ووُجهت لها تهمة القسوة على الحيوانات بموجب قانون مقاطعة كولومبيا 22-1001، 22-1002.
الحكم وأسانيده القانونية
أدانت المحكمة الابتدائية نييا روس بارتكاب جريمة القسوة على الحيوانات، مستندةً إلى الأدلة التالية:
- الإخفاق في توفير الحماية اللازمة من الظروف الجوية: اعتبرت المحكمة أن ترك الكلب في سيارة مغلقة نسبيًا في يوم شديد الحرارة يشكل خطرًا جسيمًا.
- عدم وجود مبرر قانوني أو دفاع مقبول: لم تثبت المتهمة وجود أي ظروف قهرية تبرر ترك الكلب في هذه الحالة.
- العلم بوجود خطر محتمل: استنتجت المحكمة أن المتهمة كانت على علم بأن ترك الكلب في سيارة مغلقة في يومٍ حار يشكل خطرًا على صحته.
الاستئناف والحكم النهائي
طعنت نييا روس في الحكم أمام محكمة الاستئناف في مقاطعة كولومبيا، بحجة أن الأدلة لم تكن كافية لإثبات الإدانة بما يتجاوز الشك المعقول، مستندة إلى النقاط التالية:
- عدم تقديم دليل قاطع على درجة الحرارة داخل السيارة: لم تقدم الحكومة قياسات دقيقة لدرجة الحرارة داخل السيارة.
- غياب علامات واضحة تدل على معاناة الكلب: لم تثبت الأدلة أن الكلب كان يعاني من إجهاد حراري أو آثار خطيرة نتيجة الحرارة.
- غياب القصد الجنائي: جادلت المتهمة بأنها لم تكن تنوي إيذاء الكلب، بل تركت النوافذ مفتوحة جزئيًا.
وبجلسة ٥ ديسمبر ٢٠٢٤، قد أيدت محكمة الاستئناف دفوع المتهمة، معتبرةً أن القانون الجنائي يتطلب إثباتًا يقينيًا لكل عنصر من عناصر الجريمة، وهو ما لم يتحقق في هذه القضية. وبناءً عليه، ألغت المحكمة الحكم الابتدائي وقضت ببراءة نييا روس.
دور الذكاء الاصطناعي في القضية
شهدت هذه القضية نقاشًا غير مسبوق حول دور الذكاء الاصطناعي في التحليل القانوني؛ حيث:
استعان القاضي ديال (DEAHL) بالذكاء الاصطناعي، وتحديدًا ChatGPT، في تحليله للحكم؛ حيث استعان به للتحقق مما إذا كان ترك كلب في سيارة مغلقة جزئيًا في يومٍ حار يشكل خطرًا معقولًا، وقد حصل على إجابة واضحة من الذكاء الاصطناعي تؤكد أن ذلك يشكل خطرًا كبيرًا على الحيوان.
لكن القاضي هاوارد (HOWARD) قد ناقش بشكل أوسع استخدام الذكاء الاصطناعي في المحاكم، وأبدى بعض التحفظات على الاعتماد عليه دون رقابة، مشيرًا إلى الحاجة إلى تنظيم استخدامه قانونيًا، خاصة فيما يتعلق بالمعلومات الحساسة.
أما القاضي شانكر(SHANKER)، الذي كتب الحكم الرئيسي، فقد انتقد ضمنيًا استخدام ChatGPT كمصدر للحكم على الأدلة، معتبرًا أن القانون يتطلب أدلة قاطعة وليس مجرد (معرفة عامة)، وبالتالي رفض الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في استنتاج الضرر الذي تعرض له الكلب.
وقد أثار هذا النقاش تساؤلات أوسع حول دور الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني، لا سيما فيما يتعلق بـ:
- استخدام الذكاء الاصطناعي لتقييم الأدلة: هل يمكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي كمصدر للتحقق من الحقائق العلمية في القضايا الجنائية؟
- مخاطر التحيز والخطأ: هل يمكن أن تؤدي خوارزميات الذكاء الاصطناعي إلى استنتاجات خاطئة بسبب نقص البيانات أو التحيزات في برمجتها؟
- الأثر على مبدأ اليقين القانوني: هل يمكن أن يتعارض استخدام الذكاء الاصطناعي مع مبدأ تفسير الشك لصالح المتهم في القضايا الجنائية؟
تمثل هذه القضية سابقة قانونية مهمة في تقييم الأدلة في قضايا القسوة على الحيوانات، حيث أكدت محكمة الاستئناف أن القانون الجنائي لا يعتمد على الافتراضات العامة، بل على الأدلة القاطعة التي تثبت جميع أركان الجريمة. كما سلطت الضوء على التحديات المستقبلية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في المحاكم، وما إذا كان يمكن الاعتماد عليه كأداة قانونية، أم أن هناك حاجة إلى وضع ضوابط صارمة لضمان استخدامه بعدل وشفافية.