في مجال التحكيم دائما ما نري التنظيرات الفقهية التي يتبارى فيها الفقهاء –مؤيدون ومعارضون- بالنظريات الفقهية للنصوص التشريعية، ولكن قلما تجد دارسات تقوم –بحق- على الدراسة العلمية التطبيقية التي تتأسس على نظر القضايا التحكيمية الدولية المشهورة؛ كان ما سبق أحد أسباب خسارة دول الشرق الأوسط وأفريقيا وخصوصا مصر للعديد من القضايا التحكيمية في السنوات الأخيرة أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (الإكسيد ICSID)، بينما يعيش المستثمرين ازهي عصورهم مع التحكيم، فبالطلاع علي حجم منازعات الدول العربية أمام (الإكسيد ICSID) في قطاع واحد فقط يؤكد علي صحة هذا التصور؛ فقد اكد الاتحاد العربي لمراكز التحكيم الهندسي أن حجم خسائر الدول العربية من منازعات عقود الاستثمار في مجال الإنشاءات الدولية وحدها يتراوح بين 15 إلي 20 مليار دولار سنويا، هذا في قطاع واحد فكيف حال بقية القطاعات الأخرى.
وتعكس هذه النتيجة في الواقع كيفية تعامل كل طرف من اجل المحافظة على حقوقه، فالدول العربية والأفريقية لم تستفيد من أخطاء الماضي، وظلت تتعامل مع التحكيم بالقواعد المقررة أمام المحاكم في القضاء العادي، وتتعامل مع المجتمع الدولي بنفس القواعد التي تتعامل بها مع المجتمع العالمي.
لذلك فتناول القضايا التحكيمية –خاصة المشهورة منها- بالحديث والإيضاح ربما ساهم في وقف نزيف الخسائر التي تتكبدها الدول العربية، وسوف يكون من شأنه المساعدة في التفكير في أخطاء الماضي، ولماذا تتكرر عبر العصور، بينما يستفيد المستثمر من تلك الأخطاء فينال من جراء ذلك على تعويضات بالغة تستنفذ الأطراف الخاسرة.
قضية هضبة الأهرام
شغلت قضية هضبة الأهرام الفقه المصري والعالمي لفترات طويلة، لأهمية الهضبة في حد ذاتها ولمراحل التقاضي الطويلة التي نشبت بين طرفيها، ولضخامة الجهود والتعويضات فيها، ولأخطاء الجهة الإدارية من ناحية أخرى؛ فقد كانت بحق قضية القرن الماضي.
وتعود وقائع قضية هضبة الأهرام إلى عام 1974، حيث أعلنت الحكومة المصرية عن إنشاء منطقتين سياحيتين إحداهما عند هضبة الأهرام بالجيزة والأخرى عند راس الحكمة علي ساحل البحر الأحمر، على أن يشمل المشروع إقامة فنادق وقري سياحية تتضمن شاليهات وفيلات وبحيرات صناعية.
وبالفعل قدمت شركة (جنوب الباسفيك) أفضل عطاء، وابرم العقد بينها من جهة وبين وزير السياحة المصري والمؤسسة العامة المصرية للسياحة والفنادق من ناحية أخري.
ولكن ما حدث انه وبمجرد إبرام التعاقد - نظمت حملة عالمية كبرى مناهضة لإقامة أية مشروعات سياحية فوق هضبة الأهرام، بالنظر لكونها تراثا ثقافيا مشتركا للإنسانية، الأمر الذي يوجب المحافظة عليها ضد أي أعمال حفر أو شق لمياه الشرب والصرف الصحي، لأن أية أخطاء قد يترتب عليها أضرار بليغة بالآثار النفسية الموجودة على الهضبة؛ وهوما يؤثر على عمرها الافتراضي بطبيعة الحال.
قامت الحكومة المصرية تحت ضغط الحملات الدولية بإلغاء المشروع وإنهاء العقد المبرم بين الطرفين بالإرادة المنفردة بزعم أنه عقد إداري يجوز للجهة الإدارية -بما لها من سلطات استثنائية واسعة – إنهاؤه في أي وقت دون الرجوع للطرف الآخر، وهو ما يعني ثبوت الخطأ العقدي الموجب للتعويض في جانبها. باعتباره الركن الأول من أركان المسئولية المدنية.
هكذا لم تقف شركة جنوب الباسفيك مكتوفة الأيدي إزاء هذا الأخلال العقدي. وبعد مراحل طويلة من النزاع بين الطرفين أمام غرفة التجارة الدولية بباريس ثم القضاء الفرنسي، لجأت الشركة إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (الإكسيد ICSID) لمطالبة الحكومة المصرية بالتعويض عن إنهاء عقد الاستثمار المبرم بين الطرفين بالإرادة المنفردة.
وقد كان العقد المشار إليه لا يتضمن شرط تحكيم يفيد قبول الدولة المصرية باختصاص الإكسيد بشكل مباشر. ولكن الشركة أسست دعواها على نص المادة الثامنة من قانون رقم 43 لسنة ۱۹۷4 بشأن استثمار رأس المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة[1]، والذي كان قائمة آنذاك. حيث كانت مادته الثامنة تنص على أنه "تتم تسوية منازعات الاستثمار المتعلقة بتنفيذ أحكام هذا القانون بالطريقة التي يتم الاتفاق عليها مع المستثمر أو في إطار الاتفاقيات السارية بين جمهورية مصر العربية ودولة المستثمر، أو في إطار اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدولة ومواطني الدول الأخرى التي انضمت إليها جمهورية مصر العربية بموجب القانون رقم 90 لسنة ۱۹۷۱ في الأحوال التي تسري عليها".
اعترضت الحكومة المصرية على هذا الاختصاص، استنادا إلى أن نص المادة الثامنة يعد مجرد دعوة إلى التحكيم؛ وبالتالي فهو يحتاج لخطوة إضافية وتكميلية، وهي الاتفاق المباشر بين الحكومة والشركة المدعية على فض النزاع أمام المركز. لم تعتد هيئة التحكيم بدفاع الحكومة المصرية، وذهبت إلى أن نص المادة الثامنة يعين ثلاثة بدائل ملزمة ومتساوية في أثرها:
- الاتفاق المباشر مع المستثمر.
- الاتفاقيات الثنائية بين الدولة ودولة المستثمر.
- اتفاقية واشنطن التي انضمت إليها مصر.
وقد ذهبت هيئة التحكيم إلى أن البديل الثالث يشكل قبولا صريحًا للحكومة المصرية باختصاص المركز طبقا لنص المادة ۱/۲5 من اتفاقية واشنطن التي تنص على أنه "يمتد الاختصاص القانوني للمركز إلى أية خلافات قانونية تنشأ مباشرة عن استثمار بين دولة متعاقدة وبين مواطن من دولة أخرى متعاقدة، وبشرط أن يوافق طرفا النزاع كتابة على تقديمها للمركز، وعند إعطاء الطرفين موافقتهما لا يحق لأي من الطرفين أن يسحب هذه الموافقة دون قبول من الطرف الأخر".
وقد شيدت هيئة التحكيم قضاءها بالفصل في صحة اختصاصها في تفسير نص المادة 8 من قانون الاستثمار المصري بأن كلمة (تتم) الواردة في صدر المادة، تعني أن الدولة قد فرضت على نفسها وعلى سبيل الوجوب أو الإلزام تسوية المنازعات التي تنشأ بينها وبين المستثمرين الأجانب أمام الإكسيل.
وبعبارة أخرى، فقد رأت هيئة التحكيم أن شرط الرضا في جانب الحكومة المصرية قد توافر ضمن نصوص قانون الاستثمار، حيث اتخذت هيئة التحكيم من نص قانوني وارد في التشريع المصري دليلا على قبول جمهورية مصر العربية لاختصاص هذا المركز بنظر منازعات الاستثمار بينها وبين المستثمرين الأجانب؛ لذا يطلق بعض الفقه على الطريقة التي اعتمدتها هيئة التحكيم التابعة للمركز في استخلاص قبول مصر لاختصاص المركز بنظر هذا النزاع تسمية (الرضاء الآلي).
وقد كان من نتيجة ذلك أن صدر حكم التحكيم لصالح شركة جنوب الباسفيك بإلزام مصر بدفع تعويض وقدره (سبعة وعشرين مليون وستمائة وواحد وستون ألف دولار أمريكي).
الدرس المستفاد من قضية هضبة الأهرام
الذي تجدر الإشارة إلية أن سبب قيام النزاع هو إنهاء الجهة الإدارية للعقد بإرادتها المنفردة –بزعم انه من العقود الإدارية، في حين انه ليس كذلك. فالمعلوم إن المسئولية المدنية تتأسس على عناصر ثلاث: الخطأ والضرر وعلاقة السببية. وقد ثبت الخطأ العقدي في جانب الدولة، عندما قامت بإنهاء العقد بإرادة واحده في حين انه تكون بإرادتين، بما يوجب مسئوليتها بالتعويض أمام المستثمر. وهذا هو الدرس القاسي والمستفاد من قضية هضبة الأهرام، بما يوجب على الجهة الإدارية عدم تكراره في المستقبل [2]
لمعرفة كيف يتم الاتفاق على التحكيم في العقود الادارية أنضم للمشاركين في شهادة المحكم المحترف
المصادر
[1] الجريدة الرسمية – العدد 26 في 27 يونية سنه 1974.
[2] د. عبد المنعم زمزم، إنهاء الدولة للعقود بإرادتها المنفردة وأثرة على خسائرها من التحكيم في ضوء قانون الاستثمار الدولي، الطبعة الأولي دار النهضة العربية، ص 39