يعد التحكيم الدولي في منازعات الاستثمار أداة أساسية لضمان حماية الاستثمارات الأجنبية، إلا أن مدى ارتباط اختصاص المحكمين بشرعية الاستثمار وفقًا لقانون الدولة المضيفة يظل محل جدل قانوني. وقد عالجت محكمة النقض الفرنسية هذه الإشكالية في حكمها الصادر بتاريخ 12 فبراير 2025، في النزاع بين دولة ليبيا والشركة التركية (Cengiz)، والذي أثار مسألة ما إذا كان يمكن لهيئة تحكيم الاستثمار أن تبقي على اختصاصها دون فحص قانونية الاستثمار محل النزاع.
ملخص الوقائع
نشأ النزاع بين دولة ليبيا وشركة (Cengiz) التركية بشأن عقود لإنجاز مشاريع إسكانية في ليبيا. تعرضت مواقع الشركة لهجمات خلال أحداث 2011، مما أدى إلى تعليق الأعمال، وبالرغم من توقيع بروتوكولات في عام 2013 لاستئناف المشروع، لجأت (Cengiz) إلى التحكيم وفقًا لاتفاقية الاستثمار الثنائية بين ليبيا وتركيا أمام غرفة التجارة الدولية (ICC)، مطالبةً بتعويض قدره 300 مليون دولار أمريكي.
وأصدرت هيئة التحكيم في باريس حكمًا يقضي بأن ليبيا أخلت بالتزاماتها بتوفير الحماية الكاملة والأمن للاستثمار، وأمرت بتعويض الشركة بمبلغ 51 مليون دولار وإلغاء الضمانات المصرفية المرتبطة بالمشاريع. فلجأت ليبيا إلى المحاكم الفرنسية لإبطال الحكم، مستندةً إلى تقرير صدر عام 2019 كشف عن مزاعم فساد تتعلق بالاستثمار، لم تُعرض أثناء إجراءات التحكيم. ورغم ذلك، أيدت محكمة الاستئناف في باريس الحكم التحكيمي، مما دفع ليبيا للطعن أمام محكمة النقض.
الحكم وأسانيده القانونية
دفعت ليبيا بعدم اختصاص هيئة التحكيم، بحجة أن اتفاقية الاستثمار الثنائية بين ليبيا وتركيا تشترط أن يكون الاستثمار قانونيًا وفقًا للقانون الليبي، وأن هذا الشرط يعد متطلبًا أساسيًا لتفعيل بند التحكيم في الاتفاقية.
وبجلسة 12 فبراير ٢٠٢٥، رفضت محكمة النقض الفرنسية هذا الدفع وأيدت حكم محكمة الاستئناف، مستندةً إلى ثلاث نقاط أساسية:
1. أكدت المحكمة أن موافقة الدولة على التحكيم في إطار حماية الاستثمارات الدولية تستند إلى اللجوء للتحكيم المنصوص عليه في الاتفاقية.
2. بينت أن النص على التحكيم الدائم يتمتع بالاستقلالية عن مشروعية الاستثمار أو صحة العمليات التي أدت إلى إنشائه، مما يعني أن مجرد تقديم طلب التحكيم يمنح الهيئة الاختصاص للنظر في قانونية الاستثمار ومطالبات التعويض.
3. أوضحت أن اتفاقية الاستثمار الثنائية بين ليبيا وتركيا لم تشترط تطبيقها على الاستثمارات التي تفي بتعريف الاستثمار وفقًا للقانون الليبي، بل اشترطت أن يكون الاستثمار قانونيًا ليتمتع بالحماية بموجب الاتفاقية.
أكد حكم محكمة النقض الفرنسية مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم في منازعات الاستثمار، موضحةً أن اختصاص هيئة التحكيم لا يتوقف على مشروعية الاستثمار وفق قانون الدولة المضيفة، بل يكفي أن تتقدم الشركة الأجنبية بطلب التحكيم لتمكين الهيئة من النظر في النزاع. يشكل هذا الحكم تعزيزًا لحماية المستثمرين الدوليين، ويوسع من نطاق الحماية التي توفرها اتفاقيات الاستثمار الثنائية، بغض النظر عن مدى امتثال الاستثمار للقوانين المحلية للدولة المضيفة.
نقلاً عن: إيوانا نول تيودور (Ioana Knoll-Tudor)
محامية تحكيم دولي، وشريك بشركة أدليشو جودارد (Addleshaw Goddard)، والسكرتير العام لمؤسسة (Paris Arbitration Week (PAW))، ونائب رئيس نادي التحكيم الاسباني برومانيا (Club Espanol de Arbitraje (CEA) Romania)