يشكل التحكيم وسيلة بديلة لحل النزاعات التجارية الدولية، إلا أن تنفيذ الأحكام الصادرة عن هيئات التحكيم قد يثير إشكاليات قانونية، خاصة عندما يواجه المحكوم ضده صعوبات مالية خطيرة أو إجراءات إفلاس موازية. في هذا السياق، تعرضت محكمة الاستئناف في باريس في حكمها الصادر بتاريخ 3 أكتوبر 2024 لهذه المسألة، حيث طُرحت أمامها قضية تتعلق بإمكانية وقف تنفيذ حكم تحكيمي بسبب الظروف المالية الحرجة للمحكوم ضده.
وقائع القضية:
تدور القضية بين شركة Astaris الإيطالية للبناء ودائرة الطرق الجورجية، حيث نشأ النزاع بسبب إنهاء عقد لإنشاء طريق سريع في جورجيا. بعد خسارة Astaris للتحكيم الذي تم وفقًا لقواعد غرفة التجارة الدولية (ICC)، وسعت الشركة إلى إبطال حكم التحكيم أمام محكمة الاستئناف في باريس.
وبالتزامن مع ذلك، باشرت Astaris إجراءات لوقف تنفيذ الحكم في كل من فرنسا وإيطاليا، مشيرة إلى أنها تواجه صعوبات مالية جسيمة وإجراءات إفلاس جارية. وزعمت الشركة أن تنفيذ الحكم قد يلحق أضرارًا جسيمة بحقوقها، خاصةً فيما يتعلق بمبدأ المساواة بين الدائنين غير المضمونين في حالات التنفيذ الجبري، وقد يؤدي ذلك إلى تصفيتها قضائية.
الحكم وأسانيده القانونية:
استندت المحكمة في حكمها إلى المادة 1526 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي، التي تنص على أن إجراءات الإبطال لا توقف تلقائيًا تنفيذ الحكم، ولكن يجوز للقاضي أن يأمر بتعليق أو تعديل التنفيذ إذا كان من المحتمل أن يلحق ضررًا جسيمًا بحقوق أحد الأطراف. وأضافت المحكمة أن هذا المعيار يتطلب تحليلًا دقيقًا للوضع الاقتصادي للمدين أو الدائن وقت صدور الحكم.
ونظرت المحكمة في تأثير إجراءات الإفلاس الجارية في إيطاليا، معتبرةً أن هذه الإجراءات تنتج أثرًا مشابهًا في فرنسا ويجب أخذها في الاعتبار عند اتخاذ القرار. وفي النهاية، انحازت المحكمة إلى شركة Astaris، معتبرةً أن تنفيذ الحكم قد يتسبب في ضرر مالي جسيم للشركة، خاصةً في ضوء الإجراءات الموازية للإفلاس. وأمرت المحكمة بتعليق تنفيذ حكم التحكيم، مشيرةً إلى خطر الإضرار بحقوق Astaris واحتمالية تعارض التنفيذ مع مبدأ المساواة بين الدائنين وفقًا لقانون الإفلاس الإيطالي.
خاتمة:
يعكس هذا الحكم بوضوح كيفية إمكانية وقف تنفيذ حكم تحكيمي رغم أن القانون الفرنسي ينص على أن إجراءات الإبطال لا توقف التنفيذ بشكل تلقائي. ويؤكد الحكم على وجوب أن يكون الضرر الاقتصادي الناجم عن التنفيذ جديًا، وأن يقوم القاضي بتقدير مدى خطورة هذا الضرر في اللحظة التي يتخذ فيها القرار. كما يعزز هذا الحكم من السوابق القضائية الفرنسية التي تتيح للطرف المتضرر طلب تعليق التنفيذ في ظل ظروف اقتصادية قاسية، بما في ذلك حالات الإفلاس.
وتوضح هذه القضية التفاعل المعقد بين التحكيم الدولي والقوانين الوطنية، خصوصًا فيما يتعلق بتنفيذ أحكام التحكيم في ظل الظروف المالية الصعبة. ويعكس حكم محكمة استئناف باريس توازنًا دقيقًا بين حماية حقوق الدائنين وبين تجنب إلحاق أضرار جسيمة بالمدين الذي يواجه إجراءات إفلاس، مما يشكل سابقة مهمة في تطبيق القانون الفرنسي في سياق النزاعات التجارية الدولية.
نقلاً عن: إيوانا نول تيودور (Ioana Knoll-Tudor) محامية تحكيم دولي، وشريك بشركة أدليشو جودارد (Addleshaw Goddard)، والسكرتير العام لمؤسسة (Paris Arbitration Week (PAW))، ونائب رئيس نادي التحكيم الاسباني برومانيا (Club Espanol de Arbitraje (CEA) Romania)