في ظل التزامها الراسخ بتعزيز بيئة استثمارية جاذبة وشفافة، برزت المملكة المغربية كأحد الفاعلين الرئيسيين في مجال التحكيم الدولي، لا سيما في إطار المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID)؛ حيث تعد المملكة المغربية من الدول الرائدة في مجال التحكيم الاستثماري الدولي، فمنذ انضمامها إلى اتفاقية واشنطن عام 1958 مَثلت المغرب في عدة قضايا تحكيمية أمام المركز، مما يعكس التزامها بتوفير بيئة قانونية مستقرة وجاذبة للمستثمرين الأجانب.
وفقًا لبيانات المركز، بلغ عدد القضايا التي كانت المملكة المغربية طرفًا فيها أمام ICSID 9 قضايا حتى عام 2024، مما يجعلها من بين الدول الإفريقية الأكثر مثولاً في قضايا التحكيم الاستثماري.
وقد توزعت هذه القضايا على قطاعات اقتصادية متنوعة، أبرزها الطاقة، الاتصالات، البناء، وإعادة التدوير، مما يعكس تنوع الاستثمارات الأجنبية في المملكة. وقد أظهرت نتائج هذه القضايا توازنًا ملحوظًا، حيث حُكم في بعضها لصالح الدولة المغربية، بينما انتهت أخرى بتسويات أو أحكام لصالح المستثمرين.
هذا التفاعل النشط مع آليات التحكيم الدولي يُبرز التزام المغرب بسيادة القانون واحترام التزاماته الدولية، ويعزز من مكانته كمركز إقليمي موثوق لحل المنازعات الاستثمارية.
وفي هذا المقال سوف نستعرض التنظيم القانوني للتحكيم في المغرب، والاتفاقيات الدولية التي تكون المغرب طرفاً فيها، وفي الأخير التعرف على أبرز قضايا المغرب في التحكيم.
التنظيم التشريعي للتحكيم في المغرب:
يُعتبر القانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، الذي دخل حيز التنفيذ في يونيو 2022، الإطار التشريعي الأساسي لتنظيم التحكيم في المغرب. ويهدف هذا القانون إلى تطوير وسائل تسوية المنازعات، مثل الوساطة والتحكيم، لتوفير السرعة والمرونة والفعالية في تسوية المنازعات، خاصة تلك المرتبطة بالاستثمار، مع الحفاظ على الروابط الاقتصادية والتجارية بين الأطراف.
وجدير بالذكر أن القانون رقم 95.17 أتى بمستجدات هامة في مجال التحكيم، من بينها فصل المقتضيات المنظمة للتحكيم والوساطة الاتفاقية عن قانون المسطرة المدنية، وتوسيع نطاق التحكيم ليشمل التحكيم المؤسسي والتحكيم الخاص، بالإضافة إلى تعزيز دور القضاء في مراقبة تنفيذ الأحكام التحكيمية دون التدخل في موضوع النزاع.
المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم
في القانون المغربي، يعد التحكيم وسيلة بديلة لتسوية المنازعات، ولكن هناك بعض المسائل التي لا يجوز فيها اللجوء إلى التحكيم، نظراً لارتباطها بالنظام العام أو لكونها من اختصاص السلطة القضائية وحدها. وقد تم تنظيم التحكيم في المغرب بموجب:
- قانون المسطرة المدنية، خاصة الباب الثامن (قبل التعديل)، ثم
- القانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، الصادر سنة 2022، والذي ألغى وعوّض الأحكام السابقة.
وفقًا للمادة 2 من القانون رقم 95.17، يُستثنى من الخضوع للتحكيم: (المنازعات التي تهم النظام العام ولا يجوز فيها الصلح).
ويُستفاد من هذا أن المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم تشمل ما يلي:
1. المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية:
- الزواج، والطلاق، والتطليق، والخلع.
- النسب والبنوة.
- النفقة والحضانة والولاية.
واستثناءً: يجوز التحكيم في الجوانب المالية الناتجة عن العلاقة الزوجية إذا كانت قابلة للتقدير المالي مثل النفقة.
2. المسائل الجنائية: لا يجوز التحكيم في الجرائم أو في المسؤولية الجنائية، إذ إنها من اختصاص القضاء الجنائي ولا يجوز فيها الصلح.
3. المسائل المتعلقة بالجنسية: لا يجوز التحكيم في المنازعات المتعلقة باكتساب أو فقدان الجنسية المغربية.
4. المسائل المتعلقة بالأهلية القانونية: لا يمكن التحكيم بشأن تعديل أو تقييد أو سحب الأهلية القانونية لشخص، لأنها من النظام العام وتخضع لمراقبة القضاء.
5. المسائل التي لا يجوز فيها الصلح صراحة بموجب القانون: مثل الحقوق المرتبطة بالضمان الاجتماعي، أو بعض المنازعات المتعلقة بالشغل (في حالة انتهاك قواعد الحماية الدنيا للعامل).
6. المنازعات المتعلقة بمصادرة الأملاك أو نزع الملكية لأجل المنفعة العامة: وهي مسائل تخضع لإجراءات إدارية وقضائية محددة ولا يجوز تسويتها بالتحكيم.
مدى توافق القانون المغربي مع قانون الأونسيترال النموذجي
أصدر المغرب القانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، والذي دخل حيز التنفيذ في 13 يونيو 2022. يستند هذا القانون بشكل كبير إلى قانون الأونسيترال النموذجي لعام 1985، مع بعض التعديلات التي تتماشى مع التحديثات التي أُدخلت في عام 2006.
يهدف هذا التوافق إلى تعزيز مكانة المغرب كمركز إقليمي للتحكيم الدولي، وجذب الاستثمارات الأجنبية من خلال توفير بيئة قانونية مستقرة ومواتية لحل المنازعات التجارية عبر التحكيم.
موقف المغرب من الاتفاقيات الدولية
1. اتفاقية واشنطن (ICSID)
تعد المملكة المغربية من أوائل الدول التي انضمت إلى اتفاقية واشنطن لعام 1965 بشأن تسوية منازعات الاستثمار المعروفة باتفاقية (ICSID) وقعت المغرب على الاتفاقية في 11 أكتوبر 1965، وأودعت صك التصديق في 11 مايو 1967، مما جعل الاتفاقية تدخل حيز التنفيذ في المغرب في 10 يونيو 1967.
ويُظهر هذا الانضمام المبكر التزام المغرب بتوفير بيئة قانونية مواتية للمستثمرين الأجانب، من خلال تبني آلية دولية محايدة لتسوية منازعات الاستثمار. كما يعكس رغبة المملكة في تعزيز ثقة المستثمرين وحماية استثماراتهم عبر آليات قانونية معترف بها دوليًا.
2. اتفاقية نيويورك 1958:
انضم المغرب إلى اتفاقية نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية في 12 فبراير 1959، مما يجعله من أوائل الدول التي صادقت على هذه الاتفاقية. تعد هذه الاتفاقية حجر الزاوية في نظام التحكيم الدولي، حيث تُلزم الدول الأعضاء بالاعتراف وتنفيذ قرارات التحكيم الصادرة في دول أخرى موقعة على الاتفاقية، مع السماح برفض التنفيذ فقط في حالات محددة، مثل مخالفة النظام العام أو عدم صحة اتفاق التحكيم.
ويعكس موقف المغرب من اتفاقية نيويورك التزامه بتوفير بيئة قانونية ملائمة للتحكيم الدولي، مما يُعزز من جاذبيته كمركز إقليمي للتحكيم ويُطمئن المستثمرين الأجانب بشأن حماية مصالحهم القانونية.
3. الاتفاقيات الثنائية :(BITs)
أبرم المغرب عددًا كبيرًا من اتفاقيات الاستثمار الثنائية (BITs) مع دول مختلفة لتعزيز وحماية الاستثمارات المتبادلة. وتهدف هذه الاتفاقيات إلى توفير بيئة استثمارية مستقرة وجاذبة للمستثمرين الأجانب، من خلال ضمانات قانونية مثل المعاملة العادلة والمتساوية، والحماية من المصادرة غير العادلة، وضمان حرية تحويل الأرباح.
ووفقًا لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، فإن المغرب قد وقع على أكثر من 70 اتفاقية استثمار ثنائية مع دول مثل الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، الصين، نيجيريا، رومانيا، بولندا، والإمارات العربية المتحدة. وقد دخلت العديد من هذه الاتفاقيات حيز التنفيذ، مما يعكس التزام المغرب بتعزيز بيئة الاستثمار وجذب رؤوس الأموال الأجنبية.
تنفيذ أحكام التحكيم في المغرب
وفقًا للقانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، الصادر بتاريخ 13 يونيو 2022، تنظم إجراءات تنفيذ الحكم التحكيمي في المغرب من خلال مسطرة قانونية دقيقة تهدف إلى ضمان احترام النظام العام وتوفير الحماية القانونية للأطراف المعنية.
تبدأ هذه الإجراءات بإيداع أصل الحكم التحكيمي لدى كتابة ضبط المحكمة المختصة، مرفقًا بنسخة من اتفاق التحكيم. يجب أن يتم هذا الإيداع خلال أجل خمسة عشر (15) يومًا من تاريخ صدور الحكم، وفقًا للمادة 55 من القانون. بعد ذلك، يتعين على الطرف المعني تقديم طلب إلى رئيس المحكمة المختصة لمنح الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي. يصدر الرئيس أمرًا بمنح الصيغة التنفيذية على وجه الاستعجال، بعد استدعاء الأطراف، كما تنص المادة 67 من القانون.
بعد منح الصيغة التنفيذية، يُنفذ الحكم التحكيمي وفقًا للقواعد العامة لتنفيذ الأحكام القضائية. يُراعى في ذلك عدم مخالفة الحكم للنظام العام المغربي، وفي حالة التحكيم الدولي، يجب أن يكون الحكم غير مخالف للنظام العام الوطني أو الدولي، كما ورد في المادة 77 من القانون.
تحديات تنفيذ أحكام التحكيم في المغرب
يواجه تنفيذ أحكام التحكيم في المغرب تحديات واقعية تؤثر على فعالية هذه الآلية في حل المنازعات. من أبرز هذه التحديات امتناع الأطراف الخاسرة عن التنفيذ الطوعي للأحكام، مما يضطر الأطراف الأخرى إلى اللجوء إلى القضاء للحصول على الصيغة التنفيذية، وهو ما يؤدي إلى تأخير في تنفيذ الأحكام وزيادة التكاليف على الأطراف المتضررة. كما يواجه الأطراف الفائزون صعوبات في تحديد الأصول التي يمكن تنفيذ الحكم عليها، خاصة عندما تكون الأصول مخفية أو موزعة بين عدة جهات، مما يتطلب جهودًا إضافية وإجراءات قانونية معقدة للوصول إلى هذه الأصول والتنفيذ عليها.
بالإضافة إلى ذلك، قد تستغرق الإجراءات القضائية وقتًا طويلًا، مما يؤثر على سرعة تنفيذ الأحكام ويقلل من فعالية التحكيم كوسيلة لحل المنازعات. كما أن بعض المحاكم قد تفتقر إلى الخبرة الكافية في قضايا التحكيم، مما يؤدي إلى قرارات قد لا تكون متوافقة مع المعايير الدولية أو تؤدي إلى تأخير في تنفيذ الأحكام. هذه التحديات الواقعية تعكس الحاجة إلى تعزيز الوعي بأهمية تنفيذ أحكام التحكيم، وتوفير التدريب للقضاة والمحامين على قضايا التحكيم، وتبسيط الإجراءات القضائية المتعلقة بتنفيذ هذه الأحكام.
أبرز القضايا
1. قضية كورال المغرب القابضة ضد المملكة المغربية: رفعت شركة كورال المغرب القابضة السويدية دعوى ضد المغرب تتعلق بمصفاة )سامير). في يوليو 2024، أصدرت هيئة التحكيم حكمًا يُلزم المغرب بدفع 150 مليون دولار كتعويض. تقدمت الأطراف بطلبات لتصحيح الحكم في سبتمبر 2024، ولا تزال الإجراءات جارية.
2. قضية Finetis SARL وFinetis Maroc SA ضد المملكة المغربية: تقدمت شركتا )فينيتيس( الفرنسية و)فينيتيس المغرب( بدعوى ضد المغرب تتعلق باستثمارات في قطاع الاتصالات. تم تسجيل القضية في 20 سبتمبر 2021، وأصدرت هيئة التحكيم حكمها في 4 أكتوبر 2024.
3. قضية Scholz Holding GmbH ضد المملكة المغربية: رفعت شركة )شولتز هولدينغ( الألمانية دعوى ضد المغرب تتعلق بخدمات إعادة التدوير. في عام 2024، حكمت هيئة التحكيم لصالح المغرب، ورفضت مطالبات المستثمر.
4. قضية Salini Costruttori S.p.A. وItalstrade S.p.A. ضد المملكة المغربية: تقدمت شركتا )ساليني( و)إيتالسترادي( الإيطاليتان بدعوى ضد المغرب تتعلق بعقد بناء طريق سريع. في يوليو 2001، أصدرت هيئة التحكيم حكماً بشأن الاختصاص، مما ساهم في تطوير معايير قبول قضايا التحكيم الاستثماري.
5. قضية RFCC ضد المملكة المغربية: رفعت شركة (RFCC) الإيطالية دعوى ضد المغرب تتعلق بعقد امتياز لبناء جزء من طريق سريع. تم تسجيل القضية في 6 يونيو 2000، وقررت هيئة التحكيم في 22 ديسمبر 2003 لصالح المغرب.
خاتمة:
خطت المملكة المغربية خطوات رائدة في مجال التحكيم، مما يعكس التزامها الراسخ بتعزيز بيئة قانونية محفزة للاستثمار ومواكبة المعايير الدولية. ويعد القانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، الذي دخل حيز التنفيذ في يونيو 2022، تجسيدًا لهذا التوجه، حيث أرسى إطارًا تشريعيًا متقدمًا يعزز من فعالية ومرونة تسوية المنازعات، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي.
كما أن انضمام المغرب المبكر إلى اتفاقيتي واشنطن (ICSID) ونيويورك لعام 1958، بالإضافة إلى إبرامه لأكثر من 70 اتفاقية استثمار ثنائية، يبرز حرصه على توفير ضمانات قانونية قوية للمستثمرين الأجانب، ويعزز من مكانته كمركز إقليمي للتحكيم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ورغم التحديات العملية التي قد تواجه تنفيذ أحكام التحكيم، مثل التأخير في الإجراءات أو صعوبة تحديد الأصول القابلة للتنفيذ، فإن المغرب يُظهر التزامًا مستمرًا بتطوير بنيته القانونية والمؤسسية، من خلال تعزيز قدرات القضاة والمحامين، وتبسيط الإجراءات القضائية ذات الصلة.
إن التجربة المغربية في مجال التحكيم تعد نموذجًا يحتذى به للدول الساعية إلى تعزيز مناخ الاستثمار وتحقيق التوازن بين حماية الحقوق واحترام سيادة القانون.