2025/05/20

أصدرت المحكمة التجارية الدولية بجمهورية سنغافورة بتاريخ 5 مايو 2025 حكمًا بالغ الأهمية بشأن بطلان حكم تحكيمي صدر بأغلبية في نزاع تعاقدي متعلق بتنفيذ مشروع لوجستي ضخم في الهند. وقد استند الحكم إلى إخلالات إجرائية جوهرية، تمثلت في مخالفة قواعد العدالة الطبيعية وحرمان أحد الأطراف من عرض دفاعه بشكل عادل. وأبرزت المحكمة أن الهيئة التحكيمية قد فقدت استقلالها الذهني، واعتمدت بشكل مفرط على نسخ محتوى أحكام سابقة دون مراعاة خصوصية النزاع المعروض عليها، مما يعد إخلالًا صارخًا بمبدأ الحياد ونزاهة الإجراءات.

ملخص الوقائع

المدعي هو كيان قانوني هندي تم تأسيسه لتنفيذ مشروع إنشاء ممرات شحن مخصصة للبضائع في الهند، وقد تعاقد مع المدعى عليهم – وهم اتحاد شركات يضم أطرافًا يابانية وهندية – لتنفيذ جزء من المشروع بموجب عقد تصميم وإنشاء.

وقد نشأ النزاع بعد أن أصدرت وزارة العمل الهندية في يناير 2017 إخطارًا بزيادة الحد الأدنى للأجور، ما دفع المدعى عليهم للمطالبة بتعويض مالي إضافي استنادًا إلى بند تعديل الأسعار (13.7) بالعقد، في حين تمسك المدعي بأن هذه الزيادة تدخل ضمن تقلبات التكاليف المغطاة بالبند (13.8)، وبالتالي لا يحق المطالبة بأي زيادة إضافية.

تم رفض هذه المطالبات من قبل المهندس ومجلس فض المنازعات، فأحيل النزاع إلى التحكيم الدولي تحت إشراف غرفة التجارة الدولية، وكان مقر التحكيم في سنغافورة.

صدر الحكم التحكيمي في 5 يونيو 2024 بأغلبية المحكمين، بينما أصدرت المحكّمة الثالثة  رأيًا مخالفًا. اعتبر المحكّمان بالأغلبية أن إخطار المطالبة بالتعويض كان إرشاديًا لا إلزاميًا، وأقرّا أحقية المدعى عليهم بالتعويض بمبلغ يقارب 80 مليون روبية هندية، بالإضافة إلى فوائد أخرى وتكاليف التحكيم.

ملامح الإخلالات الجسيمة في الحكم التحكيمي

تبين من مراجعة المحكمة أن الحكم التحكيمي تضمن 157 فقرة من أصل 176 منسوخة أو معدلة بشكل طفيف من حكم سابق صادر في نزاع مشابه (CTP-13)، وهو ما يدل على اعتماد مفرط على التحليل السابق دون فحص موضوعي للوقائع والأدلة المقدمة في هذه القضية. ولم يقتصر الأمر على النسخ، بل تعدّاه إلى:

  • الاستناد إلى بنود تعاقدية غير واردة في العقد محل النزاع، بل مأخوذة من عقود أخرى تختلف في مضمونها.
  • الفصل في مسائل قانونية لم يثرها أي من الطرفين، مثل تفسير شرط زمني على أنه إرشادي وليس إلزاميًا.
  • الاستعانة بعشرات الأحكام والمراجع القانونية التي لم تُعرض على الهيئة من قبل الأطراف، مما حرم الطرف المتضرر من حقه في الرد والمناقشة.

كل ذلك، بحسب المحكمة، شكل إخلالاً جسيمًا لحقوق الدفاع وقواعد العدالة الطبيعية، مما أضعف الثقة في استقلال الهيئة التحكيمية ونزاهتها.

الحكم القضائي وأسانيده

استندت المحكمة إلى المادة 24(b)  من قانون التحكيم الدولي السنغافوري، التي تُجيز إبطال الحكم إذا ثبت أن خرقًا لقواعد العدالة الطبيعية قد وقع وأدى إلى الإضرار بحقوق أحد الأطراف. وقد خلصت المحكمة إلى أن الهيئة التحكيمية مارست وظيفتها القضائية دون استقلال ذهني، واعتمدت على قوالب تحليلية جاهزة منسوخة من أحكام سابقة، دون منح الأطراف فرصة حقيقية لتقديم دفاعهم بشأنها.

وأوضحت المحكمة أن الإخلالات المشار إليها لا تمثل مجرد أخطاء شكلية أو قانونية يمكن غض الطرف عنها، بل تمس جوهر العملية التحكيمية برمتها، وتبعث برسالة واضحة بضرورة احترام مبادئ الاستقلال، النزاهة، وتمكين الأطراف من عرض دفاعهم في إطار تحكيمي عادل ومتوازن.

خاتمة

يشكل هذا الحكم محطة بارزة في التأكيد على أن استقلال الفكر القضائي في التحكيم ليس ترفًا إجرائيًا، بل ركن أساسي من أركان العدالة. ويؤكد أنه لا يجوز لأي هيئة تحكيمية أن تستنسخ أحكامًا سابقة دون مراجعة دقيقة لخصوصية النزاع، أو أن تبني قراراتها على مصادر لم تُعرض على الأطراف. إن احترام قواعد العدالة الطبيعية، وحق الدفاع، والحياد، يبقى الضمانة الأساسية لمصداقية التحكيم كنظام بديل لفض المنازعات.