2025/05/26

في إطار سعيها المستمر لتعزيز بيئة استثمارية متطورة ومتوافقة مع المعايير الدولية، أولت سلطنة عمان أهمية بالغة لتحديث منظومتها القانونية، لا سيما في مجال التحكيم كوسيلة بديلة وفعالة لتسوية المنازعات. وقد نجحت السلطنة في إرساء إطار قانوني ومؤسسي متكامل يدعم التحكيم التجاري والاستثماري، بما يعكس التزامها بسيادة القانون وجذب الاستثمارات الأجنبية.

وفي هذا المقال سوف نستعرض التنظيم القانوني للتحكيم في سلطنة عُمان، والاتفاقيات الدولية التي تعد السلطنة طرفاً فيها، إلى جانب أبرز القضايا التحكيمية التي خضعت لها أو شاركت فيها.

التنظيم التشريعي للتحكيم في سلطنة عمان

تخضع إجراءات التحكيم في سلطنة عمان لقانون التحكيم في المنازعات المدنية والتجارية الصادر بمرسوم رقم (47/97) بشأن قانون التحكيم في المنازعات المدنية والتجارية، والذي يستند في أحكامه إلى قانون الأونسيترال النموذجي لعام 1985. ويوفر القانون إطارًا مرنًا وفعالًا يعزز من سرعة وعدالة تسوية النزاعات خارج أروقة المحاكم.

وقد نص القانون العماني على جواز الاتفاق على التحكيم في جميع المنازعات التي تنشأ بين الأطراف، باستثناء ما يتعلق بالنظام العام أو الأحوال الشخصية، أو ما لا يجوز فيه الصلح وفقًا للقانون.

المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم

تنص المادة (11) من القانون على أنه:

(لا يجوز الاتفاق على التحكيم إلا للشخص الطبيعي أو الاعتباري الذي يملك التصرف في حقوقه، ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح).

وعليه، فإن المشرع استبعد صراحة المسائل التي لا يجوز فيها الصلح من نطاق التحكيم، لما تتضمنه من ارتباط وثيق بالنظام العام أو من طابع شخصي لا يقبل التصرف فيه.

وقد أحال المشرع في تحديد هذه المسائل إلى القواعد العامة في القانون، إذ لم يورد قائمة حصرية لها، إلا أن الفقه والقضاء قد استقرّا على أن هذه المسائل تشمل، على سبيل المثال لا الحصر:

  • المسائل الجنائية: إذ تتعلق بحق الدولة في العقاب ولا تقبل التصرف.
  • الأحوال الشخصية: مثل الزواج والطلاق والنسب والحضانة، إلا في الجوانب المالية التي يجوز فيها الصلح مثل النفقة.
  • الحقوق المرتبطة بالنظام العام: كالجنسية، والشرعية الدستورية، والمركز القانوني للأشخاص الاعتبارية العامة.
  • الضرائب والغرامات الإدارية والجزاءات التأديبية: كونها حقوقًا سيادية للدولة.

مدى توافق القانون العماني مع قانون الأونسيترال النموذجي

يستند قانون التحكيم العماني إلى قانون الأونسيترال النموذجي، مما يجعله متوافقًا إلى حد بعيد مع المعايير الدولية. وقد تبنّى القانون العماني العديد من المبادئ الجوهرية في قانون الأونسيترال، مثل:

  • مبدأ استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي.
  • احترام إرادة الأطراف في اختيار القواعد الإجرائية وهيئة التحكيم.
  • مبدأ عدم تدخل القضاء في سير إجراءات التحكيم إلا في أضيق الحدود.
  • منح هيئة التحكيم الصلاحية لاتخاذ تدابير مؤقتة.

ويعكس هذا التوافق حرص السلطنة على تعزيز مكانتها كمركز إقليمي للتحكيم، وتوفير بيئة قانونية جاذبة للمستثمرين.

موقف سلطنة عمان من الاتفاقيات الدولية

اتفاقية واشنطن  (ICSID)

انضمت سلطنة عمان إلى اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى (ICSID) في 1995. ويُظهر هذا الانضمام رغبة السلطنة في حماية الاستثمارات الأجنبية وتوفير آليات تحكيم دولية محايدة، بما يعزز من ثقة المستثمرين في النظام القانوني العماني.

اتفاقية نيويورك لعام 1958

صادقت سلطنة عمان على اتفاقية نيويورك للاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية في عام 1999. وتلزم هذه الاتفاقية الدول الأعضاء بالاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، مع استثناءات محدودة. وقد مكّن ذلك سلطنة عمان من ترسيخ التزامها بأحكام التحكيم الدولية، مما يعزز جاذبيتها كبيئة قانونية مواتية للاستثمار.

الاتفاقيات الثنائية  (BITs)

أبرمت سلطنة عمان عددًا من الاتفاقيات الثنائية لحماية وتشجيع الاستثمار مع العديد من الدول، من بينها الولايات المتحدة، ألمانيا، فرنسا، الصين، والهند. وتوفر هذه الاتفاقيات للمستثمرين الأجانب ضمانات قانونية مهمة.

تنفيذ أحكام التحكيم في سلطنة عمان

ينص قانون التحكيم العماني على أن أحكام التحكيم الصادرة وفقًا لأحكامه تحوز حجية الأمر المقضي وتكون واجبة النفاذ، بشرط استيفاء إجراءات محددة. يختص رئيس المحكمة الابتدائية المختصة أو من يندبه بإصدار أمر التنفيذ، ويُرفق بالطلب أصل الحكم أو صورة موقعة منه، وصورة من اتفاق التحكيم، وترجمة عربية معتمدة إذا كان الحكم بلغة أجنبية، بالإضافة إلى ما يثبت إيداع الحكم لدى المحكمة المختصة.

ولا يجوز تنفيذ الحكم إلا بعد التحقق من أنه لا يتعارض مع حكم قضائي عماني سابق، ولا يخالف النظام العام، وأنه أُعلن للمحكوم عليه إعلانًا صحيحًا. كما لا يؤدي رفع دعوى البطلان إلى وقف التنفيذ إلا إذا أمرت المحكمة بذلك بناءً على طلب جدي ومسبب، ويجوز لها اشتراط تقديم ضمان مالي، على أن يتم الفصل في طلب الوقف خلال 60 يومًا، وفي دعوى البطلان خلال 6 أشهر من صدور قرار الوقف.

أبرز القضايا التي كانت سلطنة عمان طرفًا فيها أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID)

رغم أن سلطنة عُمان لم تكن طرفًا في عدد كبير من القضايا التحكيمية أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID)، فإن القضايا التي واجهتها تميزت بأهميتها من حيث الموضوعات محل النزاع، وحساسية القطاعات التي تناولتها، خاصة في مجالات البنية التحتية والطاقة والتعدين. وقد أظهرت هذه القضايا التزام السلطنة بالانخراط في الآليات الدولية لتسوية منازعات الاستثمار، واحترامها لالتزاماتها التعاقدية والدولية، بما يرسخ مكانتها كبيئة قانونية مواتية للمستثمرين. وفيما يلي أهم القضايا التحكيمية التي واجهتها سلطنة عُمان أمام .ICSID 

قضية عديل الحمادي التميمي ضد سلطنة عمان (ICSID Case No. ARB/11/33)

تعد هذه القضية الأبرز والأكثر شهرة في تاريخ التحكيم بين مستثمر خاص وسلطنة عمان. رفع المستثمر الأمريكي من أصل عربي، عديل الحمادي التميمي، دعوى ضد الحكومة العمانية استنادًا إلى أحكام اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وسلطنة عمان. تمحور النزاع حول مزاعم تتعلق بإغلاق السلطات العمانية لمحجر كان يملكه المدعي، بشكل وصفه بأنه غير قانوني وينتهك التزامات الدولة بموجب الاتفاقية.

في عام 2015، أصدرت هيئة التحكيم قرارها برفض جميع مطالبات المدعي، مؤكدة أن المستثمر لم يُثبت وجود إخلال من جانب سلطنة عمان بأي من التزاماتها الدولية، سواء فيما يخص المعاملة العادلة أو الحماية الكافية أو عدم التمييز. وقد اعتُبر هذا الحكم انتصارًا قانونيًا مهمًا للسلطنة، ومؤشرًا على قوة بنيتها القانونية في مواجهة الادعاءات الدولية.

قضية سامسونج للهندسة المحدودة ضد سلطنة عُمان (ICSID Case No. ARB/15/30)

في عام 2015، تقدمت شركة (سامسونج للهندسة) الكورية الجنوبية بدعوى تحكيم ضد سلطنة عمان استنادًا إلى اتفاقية الاستثمار الثنائية بين البلدين. وتسلط هذه القضية الضوء على التحديات التي قد تنشأ بين المستثمرين الأجانب والجهات الحكومية في تنفيذ العقود المعقدة، وتُظهر في الوقت ذاته التزام عمان بتسوية النزاعات ضمن الأطر القانونية الدولية، رغم عدم توفر معلومات حتى الآن بشأن مآل القضية أو حكم هيئة التحكيم فيها.

قضية أتيلا دوغان للإنشاءات ضد سلطنة عمان (ICSID Case No. ARB/16/7)

في عام 2016، رفعت شركة (أتيلا دوغان) التركية للإنشاءات والتركيبات دعوى ضد سلطنة عمان بموجب اتفاقية الاستثمار الثنائية بين عمان وتركيا. اتهمت الشركة الحكومة العمانية بالإخلال بعقد تم تنفيذه في أحد مشاريع النفط والغاز، حيث أشارت إلى تأخر منح التأشيرات للعاملين الأجانب، وقيام الجهات الحكومية بإعادة توزيع المهام الموكلة إليها لصالح مقاولين محليين.

وتشير هذه القضايا إلى تعامل سلطنة عمان الشفاف والجدي مع قضايا التحكيم الدولي، حيث تظهر إحصائيًا كأحد أقل الدول تمثيلًا في سجل النزاعات أمام ICSID، مما يعكس استقرار علاقاتها مع المستثمرين الأجانب وفعالية أنظمتها القانونية. كما أن مخرجات هذه القضايا، لا سيما القضية التي حكمت فيها هيئة التحكيم لصالح السلطنة في مواجهة مستثمر أجنبي، تعكس كفاءة وتمسك السلطنة بتطبيق القانون الدولي واحترام التزاماتها التعاقدية.

خاتمة

يُظهر الإطار القانوني والتنظيمي المعتمد في سلطنة عمان التزامًا واضحًا بتوفير بيئة قانونية مستقرة وجاذبة، خاصة في مجال التحكيم. وقد أسهم قانون التحكيم لعام 2007، والمستند إلى قانون الأونسيترال النموذجي، في تعزيز ثقة الأطراف في اللجوء إلى التحكيم كوسيلة فعالة لتسوية المنازعات.

كما يعكس انضمام السلطنة إلى اتفاقيتي واشنطن ونيويورك، فضلاً عن توقيعها للعديد من اتفاقيات الاستثمار الثنائية، حرصها على حماية الاستثمارات وتعزيز الشفافية القانونية.

ورغم التحديات العملية التي قد تواجه تنفيذ بعض أحكام التحكيم، فإن سلطنة عمان تواصل تطوير بنيتها التشريعية والقضائية بما يتماشى مع المعايير الدولية، مما يؤهلها للعب دور بارز كمركز تحكيم إقليمي في المنطقة.