تشهد المملكة العربية السعودية في عام 2025 تحولًا جذريًا في مجال تسوية المنازعات والتحكيم، في إطار رؤيتها الوطنية 2030 التي تهدف إلى تعزيز بيئة الأعمال وجذب الاستثمار الأجنبي، وخلق بيئة قانونية تتوافق مع المعايير الدولية، مع الحفاظ على مبادئ الشريعة الإسلامية. وقد انعكس ذلك في الإصلاحات التشريعية، وتطوير البنية التحتية للتحكيم، ودعم القضاء الوطني للتوجهات التحكيمية، مما جعل المملكة تقترب من تحقيق مكانة كمركز إقليمي رئيسي للتحكيم في الشرق الأوسط.
الإطار التشريعي للتحكيم في السعودية
أُسست البيئة التشريعية الحديثة للتحكيم في السعودية على قانون التحكيم الصادر بموجب المرسوم الملكي رقم (م/34) لعام 2012، والذي استلهم في تنظيمه أحكام قانون الأونسيترال النموذجي، مع مواءمة أحكامه مع مبادئ الشريعة الإسلامية. وقد أتاح هذا القانون للأطراف حرية الاتفاق على إجراءات التحكيم، واختيار اللغة والقانون واجراءات تشكيل هيئة التحكيم، مع ضمان استقلالية العملية التحكيمية عن القضاء الوطني إلا في أضيق الحدود المتعلقة بالدعم القضائي لمراحل التحكيم أو تنفيذ الأحكام.
وفي عام 2017، صدرت اللائحة التنفيذية لقانون التحكيم، والتي فصلت الإجراءات ووضعت آليات لتسريع مسار القضايا التحكيمية وتقليل التداخل مع القضاء، وهو ما ساهم في تعزيز الثقة الدولية في التحكيم داخل المملكة، وتشجيع المستثمرين على تضمين بنود التحكيم في عقودهم التجارية.
إنشاء وتطوير المركز السعودي للتحكيم التجاري
يمثل المركز السعودي للتحكيم التجاري SCCA، الذي تأسس في عام 2014، أداة محورية في تطوير بيئة التحكيم في المملكة، حيث يتيح إدارة إجراءات التحكيم وفق قواعد إجرائية واضحة وعادلة، ويدير عمليات التحكيم بأسعار منافسة، ويضمن التزام الإجراءات بمعايير النزاهة والشفافية، ويعمل على تعزيز الثقة لدى المستثمرين المحليين والأجانب. وقد أطلق المركز في عام 2023 قواعد تحكيم محدثة، تضمنت أحكامًا خاصة بالتحكيم السريع، وتشكيل المحاكم الطارئة، وتفعيل الإجراءات الرقمية بشكل كامل.
كما شهد المركز توسعًا كبيرًا في نشاطه خلال عامي 2024 و2025، حيث زادت عدد القضايا التحكيمية المسجلة بنسبة تجاوزت 50% مقارنة بالأعوام السابقة، مع تسوية نزاعات تجارية بقيم تتجاوز مليار ريال سعودي، وهو ما يعكس ثقة السوق المحلية والدولية بالمركز وقدرته على إدارة القضايا بكفاءة وسرعة وعدالة.
دعم القضاء السعودي للتحكيم
أصبح القضاء السعودي داعمًا لمسار التحكيم بشكل عملي وفعال، حيث عملت وزارة العدل على إصدار تعاميم وتوجيهات لمحاكم التنفيذ والمحاكم التجارية بتسهيل إجراءات الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم المحلية والدولية، في ضوء التزام المملكة باتفاقية نيويورك لعام 1958، والتي انضمت إليها المملكة في عام 1994. وقد أظهر القضاء السعودي مرونة في التعامل مع طلبات الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، بشرط عدم مخالفتها للنظام العام وأحكام الشريعة الإسلامية.
وتشير الإحصائيات إلى أن المملكة قامت منذ عام 2012 بتنفيذ آلاف الأحكام التحكيمية الأجنبية، بقيم مالية كبيرة، مما ساهم في تحسين ترتيب المملكة في مؤشرات تسوية المنازعات الصادرة عن البنك الدولي، ودعم تنافسيتها كمركز أعمال في المنطقة.
التحول الرقمي في إدارة التحكيم
في سياق التحول الرقمي الذي تشهده المملكة، تم دمج أنظمة التحكيم ضمن المنظومة القضائية الرقمية - نظام ناجز - بما يتيح تقديم الطلبات إلكترونيًا، وجدولة الجلسات وإيداع المستندات إلكترونيًا، وإدارة جلسات التحكيم عن بعد باستخدام أحدث تقنيات الاتصال المرئي. وقد ساهم ذلك في تسريع إجراءات التحكيم، وتخفيض التكاليف المرتبطة بإدارة النزاعات، وتعزيز الكفاءة والشفافية.
كما أطلق المركز السعودي للتحكيم التجاري نظام منصة التحكيم الإلكتروني الشامل، والذي يتيح إدارة جميع مراحل التحكيم بدءًا من تقديم طلب التحكيم وحتى إصدار الحكم النهائي، بما في ذلك تشكيل هيئة التحكيم وجدولة المرافعات وتبادل المذكرات إلكترونيًا، وهو ما يجعل المملكة من الدول الرائدة في تقديم خدمات تحكيمية رقمية متكاملة في المنطقة.
مساهمة التحكيم في جذب الاستثمار
ساهم التحكيم في المملكة في تعزيز بيئة الاستثمار وجذب الشركات الأجنبية، حيث يمنح المستثمرين الثقة بإمكانية تسوية النزاعات بطرق عادلة وفعالة دون الحاجة إلى اللجوء إلى المحاكم الوطنية إلا في حالات محددة. وتحرص الجهات السعودية، بما في ذلك الهيئة العامة للاستثمار، على تشجيع المستثمرين على استخدام التحكيم كوسيلة لحل النزاعات في العقود التجارية ومشروعات البنية التحتية والمشروعات المشتركة.
وقد ساعدت هذه البيئة التحكيمية في استقطاب مشروعات استراتيجية كبرى إلى المملكة، بما في ذلك مشروعات الطاقة المتجددة، والبنية التحتية، ومشروعات المدن الذكية مثل نيوم، ومشروعات النقل، حيث توفر آلية التحكيم بيئة مناسبة لحل النزاعات المحتملة التي قد تنشأ خلال تنفيذ هذه المشروعات المعقدة.
التحكيم في القطاعات الجديدة
مع توجه المملكة لتنويع اقتصادها، أصبحت هناك حاجة متزايدة للتحكيم في قطاعات جديدة، مثل التحكيم في العقود التقنية والتحكيم في النزاعات المتعلقة بحماية البيانات والتحكيم في المشاريع الذكية، وكذلك التحكيم في النزاعات المتعلقة بالاستثمار الأجنبي المباشر. وقد بدأ المركز السعودي للتحكيم التجاري في تطوير سياسات وإجراءات متخصصة للتعامل مع هذه الأنواع من النزاعات، بما يضمن تقديم خدمات متخصصة وفعالة.
التحديات والآفاق المستقبلية
رغم الإنجازات الكبيرة، ما زال التحكيم في السعودية يواجه بعض التحديات، مثل ضرورة الاستمرار في تطوير الكوادر المحلية المؤهلة كمحكمين متخصصين، ورفع الوعي بين الشركات ورواد الأعمال حول مزايا التحكيم كأداة لحل النزاعات. كما يحتاج السوق إلى مواصلة توحيد الفهم القضائي لبعض المسائل التحكيمية الدقيقة لضمان اتساق الأحكام القضائية المتعلقة بالتحكيم.
ومع ذلك، فإن التوجهات الحكومية الحالية، والدعم المستمر من وزارة العدل والهيئات القضائية، والتوسع المستمر في خدمات المركز السعودي للتحكيم التجاري، وتحديث القواعد والإجراءات، تشير إلى أن المملكة في طريقها لتعزيز موقعها كمركز تحكيم إقليمي رئيسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحلول عام 2030.
الخاتمة
يعد التحكيم في المملكة العربية السعودية اليوم أداة استراتيجية لحل النزاعات بكفاءة وعدالة، ويواكب أفضل الممارسات الدولية مع احترام خصوصية النظام القانوني السعودي والشريعة الإسلامية. ومع استمرار الإصلاحات القانونية، والدعم الحكومي والقضائي، والتحول الرقمي الكامل، وتزايد ثقة المستثمرين في المنظومة، فإن المملكة تسير بخطى ثابتة نحو الريادة في تقديم خدمات التحكيم وجعل الرياض مركزًا تحكيميًا إقليميًا لجذب الاستثمارات وحل النزاعات التجارية بفعالية واستدامة.
Reference : GAR و ACERIS LAW